حين مثل أمام المحكمة في ظل الهيمنة الفاشية على ايطاليا، قال له القاضي الذي نظر في قضيته بصفته مناضلاً في الحركة اليسارية والديمقراطية في بلاده: «سأعطل دماغك عن العمل عشرين عاماً».
شحنة الرعب من هذا الدماغ المتقد واضحة في عبارة القاضي الفاشي الذي حكم عليه بالسجن عشرين عاماً. ربما شفى هذا الحكم القاسي غليل هذا القاضي ومن كلفوه بإصداره، لكنه فشل في تحقيق ما أراده، أي تعطيل دماغه عن العمل.
في السجن كتب «دفاتر السجن»، وسميت كذلك لأن غرامشي استخدم كراريس مدرسية صغيرة في تدوين ملاحظاته واستنتاجاته النابهة عليها، لتعد هذه الكراريس ليس أهم ما أبدعه غرامشي فحسب، وإنما من أهم المساهمات في تاريخ الحركة اليسارية والعمالية العالمية في موضوعات المجتمع المدني وتعريف المثقف ودوره.
في غمرة الانشغالات الفكرية والسياسية في العقود القليلة الماضية في العالم، وفي عالمنا العربي أيضاً، جرى بصورة غير مسبوقة تداول اسم ومساهمات هذا المفكر والمناضل اليساري الكبير، لا من قبل اليساريين وحدهم، وإنما من قبل كل المهتمين بالدراسات الثقافية وقضايا المجتمع المدني.
لم يكتف غرامشي بإعادة إنتاج التقسيم الماركسي المعروف للبنية الاجتماعية إلى بنية فوقية وبنية تحتية، وإنما سعى جاهداً لنقل مركز الثقل في البحث إلى القضايا الداخلة في نطاق البنية الفوقية، إدراكاً منه لأهمية هذه المنطقة في تقرير مجرى ومصائر الأمور، وكنوع من الرد على التفسير «الاقتصادوي» المبتذل الذي أساء لمنهج ماركس نفسه.
يميز غرامشي بين مستويين في البنية الفوقية: الأول هو المجتمع المدني أي مجموع المؤسسات التي تقول عنها في اللغة المتداولة أنها مؤسسات «داخلية وخاصة» حسب عبارته، والمستوى الثاني هو «المجتمع السياسي أو الدولة». والمستويان معاً يقومان في نظره بوظائف أيديولوجية وسياسية هي من صميم اشتغال البنية الفوقية لكنهما يختلفان معاً على صعيد نتائج عملهما.
لا يمكن فهم ذلك إلا متى وقفنا على معنى مفهومين مركزيين في خطاب غرامشي هما الهيمنة والسيطرة. تعني السيطرة تملك السلطة السياسية باستعمال أدوات مادية وهي وظيفة يرجعها إلى الدولة أو المجتمع السياسي، أما الهيمنة فتعني تحقيق تعميم نظام من الأفكار والقيم والتصورات في المجتمع، وهي وظيفة يقوم بها المجتمع المدني والمثقفون بصورة خاصة.
الدولة في النظام الديمقراطي ليست جسما نافراً في التكوين الاجتماعي أو كائناً سياسياً قهرياً مفروضاً على السياق الاجتماعي، بل إنها تعبر عن مستوى توازن القوى المتحقق في الحقلين الاجتماعي والسياسي. إنها انعكاس لتناقضات البنية الاجتماعية وتمثيل لها. وعلى ذلك يمارس المجتمع المدني سلطته في ظل اشتغال الدولة، فتكون الممارسة السياسية للدولة حاملة –بالضرورة– جزءاً من عمل المجتمع المدني ومعبرة عنه.
لكن غرامشي لا يقدم الأمر هنا على إطلاقه، فالمسألة مقرونة بطابع الدولة أو جوهرها، فحين تغيب الديمقراطية فإن الدولة تكون بطبيعة تكوينها جسما منغلقاً على نفسه محصوراً في قاعدته الفئوية الضيقة، فلا يكون لها من التمثيل شيء.
وبسبب فقدانها هذه الشرعية، تميل إلى صيانة السلطة عبر ممارسة العنف فتستثير بذلك نقيضها الاجتماعي الذي يشعر بأن هذه الدولة غريبة عنه أو مفروضة عليه، فيميل المجتمع إلى قواعده الخلفية العميقة، أي إلى عصبياته، للاحتماء بها في وجه الدولة ولاستنفارها ضدها.
27 أكتوبر 2013