المنشور

المحافظون الجدد وأفكار توماس هوبز



نهل
فكر المحافظين الجدد، من مصادر زمانية ومكانية متباينة (ما قبل الميلاد
لدى سفسطائيي أثينا القرن الرابع قبل الميلاد، ولدى نيكولو ميكافيللي في
القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولدى الاقتصادي وعالم السكان الانجليزي
ثوماس مالتوس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولدى فريدريك نيتشه في
ألمانيا في القرن التاسع عشر . وليس ليو شتراوس المصدر الحداثي، الفلسفي
السياسي، الوحيد الذي نهل منه التيار الجديد المحافظ في الولايات المتحدة
التي تعد مركز انطلاق هذا التيار وانتشاره وتبنيه وتطبيقه على نطاقات
مختلفة من قبل عديد الأنظمة السياسية في العالم، من دون الاضطرار للاعلان
عنه فصاحةً أو توريةً .


ثوماس
هوبز (1588-1679) الفيلسوف الانجليزي الذي عاصر مرحلة نوعية حافلة
بالأحداث والتحولات في القارة الأوروبية، هي المرحلة الواقعة بين أواخر
القرن السادس عشر التي تمثل بداية الانهيار العملي لنظام القنانة (الإقطاع)
بوصفه نظاماً اقتصادياً-اجتماعياً شبه عبودي (من حيث تبعية الفلاح وأسرته
شبه التامة للاقطاعي مالك الأرض، بفضل الحلف المقدس المعقود آنذاك بين
الحكم المطلق والكنيسة)، وامتداد القرن السابع عشر الذي آذن بقرب انتصار
رأسمالية المانيفاكتورة – وبعدها الرأسمالية الصناعية البدائية – نظاماً
اقتصادياً اجتماعياً جديداً حرر الفلاح من تبعيته للاقطاع وألحقه بالمعمل،
ثوماس هوبز هو أحد أبرز ملهمي الفلسفة السياسية في العالم الغربي . فلقد
عمل على تأصيل الممارسة السياسية، انطلاقاً من نظرية العقد الاجتماعي (Social Contract Theory) . وتبرز
في هذا الصدد دعوته التي ذهبت شعارا وقاعدةً أساسية لطرائق الحكم ومنها
التوظيف “المثالي” للسياسة أداة تطويع وإدارة مجتمعية، وهو “الحكم المطلق
من أجل السيادة” ومعناها، من وجهة نظر هوبز، أن الفردية، ونزعة الأنا،
وتحقيق الذات الأنانية، بحاجة الى تمركز مطلق للقوة في أي دولة تسود على
المجتمع الذي يقع ضمن نطاق حدودها الجغرافية .


لقد
سطّر هوبز رؤيته هذه لمقاربة الادارة الكلية للمجتمعات في مؤلفه الشهير
“ليفي أثان”، وهو معنى رمزي ذو دلالة خاصة بالنسبة للمقاصد الفلسفية التي
بنى عليها هوبز نظريته السياسية . فالكلمة تعني، تجرداً، شيئاً عظيماً من
قبيل السفينة الضخمة أو حيوان بحري عظيم ورد ذِكره في الكتاب المقدس . وهو
خلع على هذا “الشيء العظيم” (ليفي أثان) مسمى الكومنولث أو الدولة
(باللاتينية) التي لا تعدو أن تكون – بحسب منظور هوبز: “الحكم المطلق من
أجل السيادة” – إنساناً اصطناعياً وإن كان ذا قوام وبنية وقوة أعظم من
الانسان العادي، وهو ما يضعه هوبز ضمن مستلزمات الحماية والدفاع، وفي كل
هذا تتجسد السيادة روحاً اصطناعية تعطي الحياة والحركة لكامل جسدها
(الدولة) .


ومع
ذلك فإن اليمين المتطرف الجديد (أو بالأحرى المتجدد) في الغرب، والذي يفضل
– توارياً – مسمى المحافظين الجدد -لا يستطيع الادعاء بأن ثوماس هوبز
محسوب بالكامل على مذهبهم الفكري الشمولي، حتى لو عدّ البعض هوبز مؤسس
توتاليتارية القرن العشرين، اعتباراً بأن دعوته للسيادة المطلقة تنطوي على
تهديد خطير للحريات الفردية، ذلك أن هوبز يعد أيضاً أحد مؤسسي الليبرالية .
ففي ما أسماه ب “دولة الطبيعة”، الناس يخشون الممات ، ويعوزهم شيئان:
الأشياء الضرورية للمعيشة اللائقة، والأمل بالقدرة على الكدح للحصول عليها .
لذا، ولتجنب ذلك، فإن الناس – بحسب هوبز -يجب أن يتوافقوا على “عقد
اجتماعي” وإنشاء مجتمع مدني، على أن يكون المجتمع أدنى من السلطة السيادية
التي يتعين على أفراد مجتمعها أن يتنازلوا عن بعض حقوقهم ثمناً لحمايتهم،
وأن أي استغلال لقوة هذه السلطة يجب أن يُقبل به كونه ثمناً للسلام . وبحسب
هوبز فإن السلطة السيادية يجب أن تسيطر على مراكز القوى المدنية والعسكرية
والقضائية والدينية . 


وبذا
فقد شاء هوبز أن يغاير قليلاً “مهندسي” الحكم المطلق الصارم من مهرطقي
أثينا القرن الرابع قبل الميلاد، وصولاً الى الأب الروحي الراحل لتيار
المحافظين الجدد ليو شتراوس، وذلك بمحاولة مزاوجته بين ما أسماه “سيادة
الدولة المطلقة على المجتمع” ومدونة بعض الحقوق الوازنة للسلم الأهلي،
والموضوعة في إطار ما أسماه العقد الاجتماعي .


ولعل
هذه المقاربة هي التي جعلت من ثوماس هوبز فيلسوفاً سياسياً رائداً
ومقدّراً في أعين المشيخة الفكرية والأيديولوجية للنظام الرأسمالي . ذلك أن
مقاربته لحكم المجتمعات وإدارتها تعد جد مثالية لتحقيق هدف النظام في
الاستدامة، من حيث الإبقاء على تركيز السلطة والثروة في أيدي الصفوة مع ترك
هامش مرن لحركة الناس ضمن الحدود الشكلية والفعلية لمدونات حقوق وواجبات
ما سمّاه هوبز بالعقد الاجتماعي .