الشارع، مثله مثل أي ظاهرة أخرى، يحمل طابعاً متناقضاً أو مزدوجاً، ويعكس الشارع العربي اليوم، في أجلى صورة، التغيرات الاجتماعية والسياسية العميقة التي جرت في المجتمعات العربية خلال العقود القليلة الماضية، وهي تغيرات وتبدلات أشبه ما تكون بالانقلاب على المنجز الفكري والسياسي اليسير الذي تم تحقيقه في مراحل تاريخية سابقة .
الأفكار الكبرى الموحدة، سواء أتت في رداء ليبرالي أو قومي أو إسلامي، تتراجع لمصلحة نزعات يغلُب عليها الطابع الفئوي الضيق الذي يغلب الهويات الجانبية أو الفرعية على الهوية العامة الموحدة، التي يلتئم حولها الناس جميعاً في مجتمع من المجتمعات، بصرف النظر عن تحدراتهم المذهبية أو الطائفية أو العشائرية أو العائلية، حينما يدرك هؤلاء جميعاً أنهم يعيشون في أوطان واحدة عليهم تدبر أمر عيشهم المشترك فيها، وتدبر النهوض بأوضاعها وضمان مستقبل أفضل لأبنائها جميعاً .
لذا بات من الصعب اليوم الحديث عن شارع عربي، وإنما عن مجموعة شوارع في المجتمع الواحد، فهناك شارع مسيحي (أو قبطي)، وشارع إسلامي، وهذا الأخير بدوره يمكن أن ينقسم إلى شارع سني وآخر شيعي، هذا فضلاً عن “الشوارع” الخاصة بالأقليات المختلفة التي تعيش في هذا البلد العربي أو ذاك .
ولنا في ما يجري في غير بلد عربي عظة، لأن الشارع بالذات بات عنواناً للصراع السياسي الحاد، حيث من المستحيل إغفال أن هذا الشارع إنما يفصح عن التجليات الطائفية والفئوية لما يدور في المجتمع . صحيح أن بلوغ الإجماع في مجتمع من المجتمعات، ينطوي على قدر من الحريات كتلك المتوافرة في لبنان مثلاً، أمر مستحيل وغير صحي، لكن غير صحي أيضاً أن يصل المجتمع إلى حالة الانقسام العمودي الناشئة حالياً في العديد من بلداننا .
ليست تحولات الشارع العربي الظاهرة على السطح، إلا انعكاساً لما يعتمر في أحشاء المجتمع وقاعه من التحولات والانعطافات السياسية الحادة خلال العقود الماضية، ولا يمكن فهمها إلا من خلال منهج للتحليل يرى التحول الثقافي ضمن منظومة أشمل من التحولات الاجتماعية -السياسية، لا من خلال التهويمات المنقطعة عن جذر هذه التحولات، والبعيدة عن وهج جذوتها، فذلك يعيننا لا على فهم ما جرى ويجري فحسب، وإنما يعيننا أيضاً على رسم خريطة طريق للخروج من حال انحلال العقل الجماعي الذي وجه مراحل النهوض الآفلة .