ليس من قبيل المبالغة القول اننا جمعياً كسلطة وقوى سياسية وجماهير
شعبية أصبحنا أمام تحديات وخيارات مصيرية وتأريخية، فأما أن تتخطى البحرين
هذه المرحلة الصعبة عبر تصحيح المسار السياسي والدستوري، والعودة الى حياة
سياسية عادلة مستقرة، وهو أمر ليس في الامكان تحقيقه إلا من خلال «التوفيق»
بين ضرورتين، الأولى وجود أو حضور دولة قوية، والثانية السيادة الكاملة
للشعب في هذه الدولة التي تعني حضور الشرعية الديمقراطية والدستورية، هذه
هي المعادلة الغائبة ومعها غابت القدرة أو الرغبة في إيجاد حلول للأزمة
المستمرة منذ ما يزيد على العامين، هذا الاخفاق أو الفشل في معالجة الأزمة
يعود الى أن هناك من يصر على ضرب هذه المعادلة أو الاخلال بها عبر ترجيح
طرف القوة والخيار الأمني على حساب حقوق المواطنين الذين يتحولون الى مجرد
رعايا، وليس خافياً ان الانحياز الى خيار القوة فقط لا يصنع الشرعية كما
أنه يحول الدولة الى دولة «مستبدة» اما النجاح في ترسيخ طرفي المعادلة
فيعني أن الدولة يمكن أن تصبح «ديمقراطية» وليس مهماً هنا شكل أو طبيعة
الحكم ملكياً أو جمهورياً، رئاسياً أو برلمانياً، المهم الجوهر أو النسق
السياسي الذي يحكم هذا النظام، الذي ينبغي أن يكون بعيداً عن التسلط
والإكراه، وبعيداً عن سياسة الاستعباد التي تعمل لصالح أقلية مقابل إقصاء
وإبعاد الجموع الوطنية، وتنكرها لمفهوم أو مبدأ التعددية السياسية
والاجتماعية.
ان الفشل في تخطي هذه الفترة الحرجة، يعني الانزلاق الى
مزيد من الاستقطاب والصراع الداخلي الذي يحمل في طياته مخاطر جسيمة على
المجتمع والوطن كله وكلما تأخرت خطوات المعالجة الصحيحة، وكلما طالت عملية
تصحيح مسار الوضع السياسي والاجتماعي المضطرب، وكلما استمرت محاولات
الالتفاف او الهروب من الاستحقاقات السياسية والدستورية الشاملة والعادلة،
كلما يعني أننا نفسح المجال اكثر لزيادة ومضاعفة حجم الاستقطاب في المشهد
السياسي والاجتماعي في البلاد.
قد ينظر البعض الى ما نقوله هنا من
زاوية تشاؤمية، او اننا نحاول غلق أبواب الأمل في البحث عن حلول سياسية
توافقية، اذا ما وضعت هذه الرؤية في سياق ما يجري على أرض الواقع من تصاعد
لخيار فرض القوة وتشديد الاجراءات القمعية التي تنتهك حقوق المواطنين، الا
أن ما نؤمن به ونسعى إليه غير ذلك تماماً فرغم كل الصعاب فإننا لا نريد أن
نجعل اليأس بديلاً للأمل وبديلاً عن التحرك واجتراح الحلول فليس هناك أكثر
من الأزمات المستعصية ما يدفع الى التفكير وإعادة النظر في المواقف
والسياسات وعدم الإذعان لمنطق الجمود القائم، او التسليم لإرادة وأصحاب
الخيارات الأمنية والحلول «الجزئية» او «الترقيعية».
بهذا المعنى
نصبح جمعياً أمام خيارين لا ثالث لهما، أما استمرار الوضع الراهن على حاله
وزيادة تفاقمه مع مرور الوقت، وخاصة مع استمرار الاجراءات والقرارات
المتشنجة وغير المدروسة، وصولاً الى مزيد من «الاهتراء» السياسي والتوتر
الطائفي وبلوغ حد الانفجار (لا قدر الله) الذي يصعب التكهن بنتائجه
المدمرة، او الاسراع في كسر حالة الجمود عبر التقدم بمبادرة وطنية شاملة
وعادلة، تكون أولى خطواتها رفع او نزع سيف القوة الأمنية المفرطة عن مجريات
الواقع السياسي، ومن ثم نزع فتيل الانفجار الطائفي الذي يتفاعل مع مجرى
التطورات في المنطقة، وليس هناك طرف قادر ومسئول عن تقديم مثل هذه المبادرة
سوى السلطة السياسية، فكل الأطراف السياسية بل والمجتمع البحريني كله،
يعيش حالياً أجواء مناخ سياسي واجتماعي موبوء، مشحون بنار الأحقاد
والعصبيات المذهبية المنفلتة، كما انه مجتمع صار مشحوناً بالتحريض بفعل
إعلام لا همّ له سوى التضليل وقلب الحقائق، وعدم التورع عن استخدام أقسى
العبارات النابية والسباب المقذع في حق المعارضين السياسيين.
وما
يضاعف من حالة القلق والتوتر أنه في ظل هذا الواقع المأزوم الذي هو نتاج
عقود من الاستبداد، برزت قوى مصلحية مشبعة بثقافة الإقصاء والاستئصال، لا
يوجد في فكرها او سلوكها مكان للتعددية والمشاركة، وهي تضيق ذرعاً بالتعايش
مع الخصم السياسي، كما أن فهمها للديمقراطية فهم بدائي ومتخلف، تحكمه
مصالح فئوية وطائفية ليس لها علاقة بالمصلحة الوطنية العامة، وليس في الأمر
غرابة هنا إذ ان هذه القوى هي في الواقع مخلفات ونواتج حالة الاستبداد
التي عانى منها البلد لعقود طويلة)، كما انها اليوم هي من يقف وراء تفاقم
الأزمة واستعصاء حلها، رغم كل الجهود والمحاولات المخلصة التي تبذل من هنا
وهناك، والسبب يعود الى ان هذه القوى قد قررت على ما يبدو خوض مواجهة
عقابية واستئصاليه شاملة مع المعارضين تحت وهم القدرة على سحقهم واستئصالهم
سياسيا، والغريب ان هذه القوى تستند في تحقيق أهدافها على جزء من «قوة
الدولة» ومقدراتها التي يفترض ان تكون دولة الجميع وليست لصالح فئة أو
أقلية معينة، كما انها تستند على ارث فكري وسياسي مثقل بالغرائز البدائية
المنفلتة وبالعصبيات المذهبية المتخلفة.
كان من الممكن النظر الى
الحراك الشعبي الوطني الذي حدث باعتباره فرصة تأريخية لتصحيح مسار العملية
السياسية الذي يعاني من الاضطراب والاختلال، والدخول في طريق الحوار السلمي
الحضاري، من أجل الانتقال بالمجتمع السياسي البحريني الى التعددية
والمشاركة الحقيقية عن طريق الديمقراطية، وليس عن طريق العنف والإقصاء
وانتهاك الحقوق او الانتقام، وكان يمكن ان يكون الحراك فرصة للتخلص من كل
أمراض الفساد والاستبداد وكل الحالات المستعصية التي تفتك بالمجتمع
البحريني، ولكن المؤسف ان هذه القوى قد اضاعت هذه الفرصة، ومازالت تعوق
إمكانية نجاحها حتى وقتنا الحاضر، بل هي قد تحولت الى معول هدم يمزق
المجتمع اجتماعياً وطائفياً، عبر إصرارها على اقحام البعد الديني والمذهبي
في الصراع السياسي، من أجل تعطيل أي حل سياسي والمضي في ارباك المشهد العام
أكثر وأكثر، لذلك هي تعمل بكل السبل الملتوية وأشكال التزييف الممكنة على
تسعير الجنون الطائفي واتباع نهج تحريضي قّل مثيله ضد قوى المعارضة
الوطنية، والمزايدة في الوقت ذاته على مبادئ الوطنية التي تدعي احتكارها
كذباً وزوراً، فالوفاء للوطنية لا يعني الممارسة العنصرية والشوفينية ضد
شركاء الوطن، والدخول معهم في دائرة انتقام مغلقة وشريرة دون أي مبرر.
مهما
تباينت وجهات النظر في طبيعة الحراك الشعبي السلمي، والتداعيات التي خلفها
ومهما تضاربت الآراء في حجم الأخطاء التي وقع فيها هذه الحراك، إلا أنه
ليس في مقدور أحد أن ينكر ان هذا الحراك في أحد إيجابياته قد كشف عن عمق
الخلل السياسي والعفن الطائفي اللذين يعاني منهما مجتمعنا، كما كشف عن غياب
المواطنة الحقيقية التي وحدها فقط يمكن أن تكون رافعة لأي مشروع ديمقراطي
حقيقي، هذا هو أحد أهم التحديات التي أشرنا إليها في مستهل هذه المقالة،
والتي يجب معالجتها دون تأخير أو تسويف لضمان نجاح أي حل سياسي للأزمة
الراهنة. وللحديث صلة…