إلى صديقي في الزنزانة رقم (5) بسجن القلعة، مارس 1965: طريقنا أنت
تدري… شوكٌ وعرٌ عسير. شوك على جانبيه، لكننا سنسير. إلى الأمام نسير.
بعد
الانتهاء من حفلات الضرب والتعذيب الذي يعد بدائياً يومها، ولا يفضي إلى
الموت كما يحصل هذه الأيام، وكنت مشاركاً ضمن آلاف من أبناء شعب البحرين في
انتفاضة مارس (آذار) المجيدة 1965، نقلوني من زنزانة خارج مبنى السجن
القديم، وكانت عبارة عن أحد صفوف المدرسة داخل القلعة، وكان معي المرحوم
العروبي القومي حمد يعقوب لمخضب من المحرّق، وتهمتي أني هتفت في المظاهرات،
وأخفيت المناضل أحمد الشملان في أحد بيوت المحرق والذي اصطلح على تسميته
بـ «المخبأ».
لم يحصلوا مني يومها على أية معلومة، ويبدو أنهم يئسوا،
أو ظنوا أن هذا الولد ذا السبعة عشر عاماً، لا يمكن أن تكون له صلة بأحد
قيادات حركة القوميين العرب البارز في جميع نشاطات ومظاهرات المحرق. ذات
صباح فُتح باب الزنزانة ووضعوا القيد في يدي، واقتادوني إلى السجن الرئيسي
بالقلعة. كانت أبواب الزنازنة جميعها موصدة، وعبرنا الزنازنة من اليسار حتى
وصلنا الزنزانة (5). وكان بابها من قضبان الحديد، وإذا برجل ذي لحية كثيفة
ونظارة طبية بيضاء كالتي يلبسها الأطباء أو كبار الكتّاب، يحملق من خلال
القضبان ويمسح بيده على لحيته الكثة.
فتح عريف الشرطة الباب، وفكّ
القيد الحديدي عن يدي، وخاطب الرجل بعربية مكسّرة: «هذي ولد صغير يسوّى
شوشرة في محرق خلي بالك عليه». ويبدو أن هذا العريف بعرف هذا الرجل ذو هيبة
واضحة في وقفته ونظراته. أغلق الباب وانصرف العريف، وفي طريقه إلى الخارج
توقّف عند الزنزانة رقم 1 ونادى بأعلى صوته: «علي شيراوي يبي أكل». وانصرف
وهو يقهقه.
يبدو أنه يعرف المترددين على السجن، استقبلني الرجل بحنو
الأب، وربت على كتفي وقال: «لا يهمك. أأنت عبدالله مطيويع؟» اندهشت لمعرفته
إياي، وقلت: نعم. فقال: «سمعنا عنك. خلك على موقفك وصمودك». يبدو أن
الأخبار كانت تصلهم عن جميع من هم خارج السجن الرئيسي، عن طريق السجناء
الآخرين الذين لعبوا دوراً مهماً في توصيل المعلومات والرسائل من وإلى داخل
السجن، وكان أبرزهم المرحوم جاسم تراب، وأحمد القحطاني من المحرق، والذي
اقترب من الزنزانة، وبيده مجرفة لكنس الأرضية وقال موجِّهاً كلامه للمناضل
علي دويغر: «هذا ولدنا اتحمل فيه»، وانصرف. تيقنت أن هناك شبكة من التواصل
والتضامن من المحكومين والمعتقلين السياسيين، وأمطرني بالأسئلة التفصيلية
عن تطور الأحداث وخصوصاً في المحرق، وسردتها عليه كاملة، وكان بقية الإخوة
في الزنزانات الأخرى وخصوصاً القريبة من الزنزانة (5) متشوقين لسماع
الأخبار، محمد سيف عجلان المناعي، محمد بونفور، أحمد بوجيري، أحمد حارب،
سبت سالم سبت، وعلي عيش، موزعين بين الزنزانات من 1 إلى 7.
وصار علي
دويغر الذي أنست به كثيراً، يبث لهم الأخبار بصوت خافت لكي لا يتنبه الحراس
إليه، فالكلام ممنوع، ولم ننتبه إلا على صوت جلبة القيود اليدوية حين جلب
عاملان الغداء، وساد الصمت. في المقدمة كان جاسم تراب، الذي بدأ يوزع صحون
الرز المرشوش بمرق البوبر، وعينه على صحن دون الصحون ينقله من مكان إلى آخر
وسط الصينية التي كانت تحمل الصحون، فتح باب الزنزانة (5)، ومد (جاسمي)
يده إلى ذلك الصحن، ووضعه داخل الزنزانة، وقام بحك رأسه إلى على دويغر،
وابتسم دويغر ووضع الصحن وانصرف (جاسمي)، بدأنا في تناول الرز حتى آخر حبة،
كان صل الماء هو ما نشرب منه، وكانت لدينا علبة طلاء صدئة للتبول.
أدار
الأخ علي دويغر ظهره وفتح لفافة مطوية بعناية بالنايلون، واستغرق في
قراءتها واستغرفت أنا في النوم لأنني لم أنم منذ ثلاثة أيام.
صحوت
على يد تربت علي لأصحو، ففزعت، وحسبت أنهم سيأخدونني للتحقيق، كانت يد
حانية توقظني لكي نذهب الحمام. خلال فترة الانتظار، قال لي الأخ دويغر:
اسمع يا مطيويع، ما سأقوله لك واحفظه جيداً. ربما يأخذونك للتحقيق أوربما
يأتون ببعض من نعرف أو من كنتم معه في نشاط خلال الانتفاضة، وقد يكون
نهاراً، فقد سمعنا أن بعض الأشخاص قد اعترفوا على رفاقهم، وخلك ريّال، كما
سمعنا عنك، فهذا الطريق طريق طويل وعر. ومادام تم اختيارك تحمّل تبعاته،
وشعبنا هذا يستحق التضحية.
في الليل صدق تنبؤ علي دويغر، جاءوا
وأخذوني إلى قسم المخابرات وأوسعوني ضرباً، وجاءوا بأحدهم ليقول (هو) وأظنه
يعرف أين يختبئ أحمد الشملان وراشد القطان وشاكر عقاب. ولم ينالوا مني.
قرب الصباح أعادوني إلى الزنزانة واستقبلني دويغر وراح يدلك أجسامهم ويضع
المشموم على بعض الجراح، ويردّد: (كفو عليك يا مطيويع والله كفو عليك).
كانت كلمات هذه قد نفذت إلى روحي وزادت من شدة عزمي. وكانت الدرس الأول في
الصمود ومواجهة الجلادين.
كان ودوداً وذا قدرة فائقة على تحبيب
الأشياء لمحدثه، فلكي يخفف عني صار يسرد لي بطريقة يخرجني بالخيال إلى خارج
الزنزانة والسجن، فيقول لي: سوف يأخذونك إلى جزيرة جدّا، وهناك في الجزيرة
ستشفى جراحك لأن هواءها طيّب، وسوف تأكل بدل هذا (الكرص) الرغيف البائس
(جباتي) لم تأكل مثله قط. وتشرب ماءً عذباً ليس كماء القلعة، وفعلاً جعلني
أسرح وأحلم بالذهاب إلى سجن جزيرة جدا وليس إلى البيت!
في سجون
البحرين التقيت الكثيرين، ومررت بالكثير، وفي هذه الرحلة يأتي كثيرون، ويمر
كثيرون، ولا يتركون ما يتركه في الروح والوجدان إلا القلائل، ومن هؤلاء
القلائل، المناضل علي دويغر، كما أحمد الشملان.
علي عبدالله دويغر…
في ذكراك استحضر أبيات الشاعر: نحن حبات البذار.نحن لا ننجو جميعاً عندما
يأتي الربيع. بعضنا يهلك في هول الصقيع. وتدوس البعض منا الاحذية. غير انا
كلنا لسنا نموت. إننا نعلم أطلال القبور. ستُغطّى ذات يوم بالسنابل. وسينسى
الناس أحزان القرون. وسينسون المنافي والمقاصل والسجون. نحن إذ نحيا فمن
أجل الربيع. وإذا متنا فمن أجل الربيع.