غيّب الموت صباح أمس الأول الجمعة (6 سبتمبر/ أيلول 2013) المناضل
البحريني علي عبدالله دويغر في السويد بعد أن عاش حياة جمعت بين اليتم
والألم والحرية والنضال والمنافي وبين صراع طويل مع الأمراض المختلفة التي
عصفت بجسده مرة بسبب التعذيب الذي تعرض له في غياهب سجون البحرين منذ
ستينات القرن الماضي ومرة مع مرض عضال ليطوي بذلك صفحة مناضل بحريني قلّما
تكرر أناس مثله.
ودويغر يعرفه معظم السياسيين في البحرين وخارجها فهو
مؤسس جبهة التحرير الوطني البحرانية. وهو أول تنظيم حزبي ويساري طليعي في
البحرين قاد الجماهير وهو يعد التنظيم الحزبي الأول من نوعه في الخليج
انطلق في 15 فبراير/ شباط العام 1955. وكان أول اجتماع نظمه للجبهة بدأ في
أحد أحياء المنامة القديمة بينما كان أول من صاغ ميثاق الجبهة بخط يده في
العام 1959.
ومن لا يعرف دويغر وعائلته فهو سليل عائلة منامية، فكلمة
دويغر، تعني الفيض والعطاء ومن ثم انسحبت الكلمة كلقب للعائلة، ويذكر أن
هناك أسراً عراقية ولبنانية وسعودية تحمل اللقب نفسه.
إن أسرة دويغر
من الأسر البحرينية العربية الأصلية في المنامة ذات جذور تاريخية وكان
منزلها يقع على المدخل المؤدي إلى رأس الرمان بالعاصمة وكانت تتاجر في مجال
المواد الغذائية، إضافة إلى التبغ المجلوب من عُمان، وهذا العمل تطلب
التنقل بين البحرين وعُمان.
والمناضل علي هو ابن أخ المرحوم محمد علي
دويغر مؤسس نادي العروبة وصاحب ثقافة تخطت الشأن المحلي إلى الشأنين
العربي والعالمي، فكان إنساناً وطنياً وقومياً صاحب رسالة مجتمعية.
لقد
كان علي دويغر الفتى الوحيد في وسط أخواته (أنيسة وغالية) وبنات عمّه في
العائلة إذ كان عمّه من أوائل من شجع فتيات العائلة على التعليم في وقت
مبكر كما كان منزل العائلة صالوناً أدبياً اعتاد المفكرون والمثقفون على
ارتياده في فترة كانت جهود المثقفين والنخب تنصبُّ على تنوير المجتمع.
أمّا
علي وأخواته فقد توفي والدهما عبدالله دويغر في سن صغيرة وقد كرست والدتهم
حياتها من أجل تربيتهم وتعليمهم إذ عانت الكثير من ملاحقة وسجن وتعذيب
ابنها الذي ناضل من أجل الحرية ثم ناضل في مرحلة أخرى من حياته ضد المرض
لعقود.
برز اسم علي دويغر منذ منتصف الخمسينات في القرن الماضي،
عندما بدأ نشاطه السياسي على مقاعد الدراسة بالمرحلة الثانوية إذ كان ضمن
الحلقة الريادية الصغيرة التي تبنّت الأفكار اليسارية والتقدمية في وقت
مبكر نسبياً بالقياس للطبيعة الخاصة لمستوى التطور الاجتماعي والسياسي في
البحرين ومنطقة الخليج حتى أسّس جبهة التحرير الوطني البحرانية.
درس
دويغر في كلية التجارة في جامعة بغداد في العام 1956 وانخرط في الحياة
الطلابية النشطة التي نشطت في إطار النهوض الوطني في العراق عشية وبعد ثورة
الرابع عشر من يوليو/ تموز 1958، وبسبب تسارع التطورات السياسية هناك حيل
بينه وبين البقاء في العراق التي بقي فيها حتى 1959 ثم أبعد من العراق
مجبراً على ظهر سفينة من ميناء البصرة إلى قطر حيث عمل في شركة النفط لمدة
عام ثم غادر قطر إلى الكويت وعمل هناك مديراً لتحرير جريدة «الهدف»، التي
مكث فيها ستة أشهر إلا أن السلطات الكويتية قد أمرته بمغادرة الكويت بسبب
سلسلة مقالات جريئة حول احتكار شركات النفط الغربية لنفط الخليج ومطالباته
بتنويع مصادر الإنتاج. وبسبب آرائه وأفكاره فقد اعتقل لمدة ثمانية شهور في
العام 1964، ليودَع المعتقل ثانية إثر اندلاع انتفاضة مارس 1965، حيث مكث
في سجن جزيرة (جدا) عامين وثمانية شهور، ليكون بذلك آخر من غادر المعتقل
آنذاك.
كتب عنه رفيقه حسن جاسم الحجري عندما كان محتجزاً لمدة خمس
سنوات في جزيرة (جدا) قائلاً: «عرفتُ الرفيق علي دويغر في العام 1968 عندما
كنا في المعتقل بجزيرة جدا وأتذكر جيداً أنه كان في زنزانة مع إبراهيم
ديتو وكان معنا في الجزيرة كثير من الكوادر وأعضاء الجبهة وآخرين، وكان من
المحكوم عليهم مجيد مرهون مدى الحياة وحسن علي محمد كان محكوماً بستّ سنوات
بينما أنا كنتُ أصغرهم سنّاً وقد حُكم عليَّ بخمس سنوات». مضيفاً «عشنا
في تلك الجزيرة مع ضابط مدير السجن البريطاني فرانك سميث الذي كان يجيد
العربية وفي كل صباح ومساء يقوم هذا الضابط بتفقد المعتقلين والمحكومين
وعندما يصل إلى علي دويغر يقف نحو ربع ساعة يتبادل معه الأحاديث المختلفة
وما مضت إلا فترة وجيزة حتى فارقنا علي إذ تم نفيه إلى خارج البلاد…
التقيته في أواخر التسعينات فتذكرني في الحال وأهداني ألبوم صور رسمها بيده
كانت مُعبِّرة عن أيام زمان وعن حياتنا في السجن… مهما أتحدث عنه فهو
قليل بحقه… لقد كان نبراس طريقي وطريق كل الكادحين في البحرين».
أسهَمَ
دويغر بدور قيادي حاسم في تاريخ تأسيس جبهة التحرير الوطني البحرانية وفي
نضال البحرين الطويل الذي مازالت موروثاته مستمرة حتى الوقت الحالي والفرْق
أن الزمن تغير لكن الممارسات مازالت مستمرة مع بعض التطور. وكابد الكثير
من أوجه المعاناة جراء ذلك، لكن القليلين الذين يعرفون علي دويغر الباحث
الذي قدم دراسات مهمة عن خصائص التطور الاجتماعي السياسي في البحرين، بينها
تلك الأطروحات التي نال عنها درجاته العلمية في جامعة لوند بالسويد.
من
أبحاثه المهمة: «تحليل مقارن للإدارة العامة في البحرين»، «تأثيرات اللؤلؤ
والنفط على العمل في البحرين، و «الرأسمال الأجنبي والنمو السكاني»،
فضلاًً عن دراسات أخرى تتصل بقضايا الإصلاح الزراعي. في دراساته اتبع دويغر
منهج التحليل العلمي، المادي التاريخي، في رصد وتحليل البنية الاجتماعية
والطبقية في مجتمع البحرين في الفترات التي غطاها في بحوثه، فهو على سبيل
المثال قدم في بحثه عن آثار صناعة اللؤلؤ والنفط توصيفاً للتركيب الطبقي في
المجتمع البحريني مبيناً أن المظاهر الإقطاعية ظلت فاعلة رغم تقدم علاقات
الإنتاج الرأسمالية مع مجيء النفط، مما أوجد تركيبة طبقية غريبة، وهو بهذا
كان يتلمس مبكراً ما يتركه النفط من تأثيرات في بنية اجتماعية محافظة. كما
رأى دويغر أن البرجوازية الوطنية، آنذاك، صغيرة العدد وهي تجارية الطابع،
وتعاني من اختراق السوق من قبل الرأسمال الأجنبي والشريحة المتنفذة من
البرجوازية المتحالفة معه والمستفيدة من مزايا هذا التحالف.
مثل
دويغر الذي كان يتمتع بفكر ثاقب هم قلة، فقد كان مؤمناً بخيار المقاومة
المدنية التي هي الطريق الأمثل لتحقيق الدولة المدنية لجميع البحرينيين دون
فرق أو استثناء ولم يتحرك إلا من منطلق قناعاته ولكنه دفع ثمن ذلك لأن ما
كان يحلم به لم يحقق حلم الدولة التي يبحث عنها حتى وقتنا الحالي.
وتعيش
المرحلة الراهنة مقاومة التغيير الذي يحقق الديمقراطية والعدل والتي مازال
يطالب بها الشارع البحريني عبر نضال طويل سقط فيه مئات الشهداء وآلاف
المعتقلين والمهجرين والمتضررين من سياسة القبضة الأمنية بسبب غياب الشروع
في التنمية الإنسانية التي تتطلب التوزيع العادل للثروة وتشييد البنى
التحتية التي تساهم في بناء مجتمع العدل والمساواة.
مهما كُتب ومهما قيل يبقى علي دويغر قامة وطنية كبرى في تاريخ الذاكرة والنضال البحريني… فقد عاش أبيّاً ومات حُرّاً أبيّاً!