لا أحد من رواد فكر النهضة شخص العلة العربية الرئيسية بالدقة والتحديد التي شخصها بهما عبدالرحمن الكواكبي . حقاً إن في أفكار مجايليه وسابقيه ولاحقيه من هؤلاء الرواد إشارات إلى علة الاستبداد، ولكن لم يبلغ أحد آخر سواه منهم ما بلغه هو من تحديد لها، وعناية بتقصيها وبحث جذورها وأسبابها ومظاهرها، لا بل وسبل مواجهتها، للدرجة التي جعلته يضع عنها كتاباً، لن يكون بالإمكان الكتابة عن فكر الطغيان في التاريخ وفي الراهن العربيين من دون العودة إليه .
الاستبداد علة العلل، وهو، في حياتنا العربية الراهنة، مسألة حيوية حاضرة كما كان في زمن الكواكبي قبل أكثر من قرن، بل لعلها أكثر حضوراً من يومذاك .
يقول عبدالرحمن الكواكبي “إن الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه والأنفة من قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة” . وبهذا التعريف فإن الكواكبي لا يشخص الاستبداد بوصفه ظاهرة سياسية فحسب، وإنما بوصفه ظاهرة عامة واسعة تغطي مساحة بمساحة المجتمع كله، عوضاً عن الفكر نفسه بوصفه الفضاء الأوسع والأكثر تعقيداً في الآن ذاته لتجلي القناعات . لكن مركز الثقل في تصدي الكواكبي للاستبداد يبقى في دائرة السياسة، ليس جرياً وراء تحديد جزئي قاصر وإنما لإدراك منه بأن الاستبداد السياسي هو الأشد ضرراً والأكثر تأثيراً في العامة .
“المستبد – يقول الكواكبي – يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم . ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته” . والمستبد أيضاً “يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزاً، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم” .
ومن أكثر الإشارات إشراقاً عند الكواكبي هو ذلك التفريق النابه بين الاستبدادين الشرقي والغربي، حيث لاحظ أن المستبدين الغربيين لا يمنعون العلم إجمالاً، وإنما يحرصون على عدم إدراك الناس أن الحرية أفضل من الحياة، فهم يحاربون تعليم الناس حقوقهم حتى لا ينقلبوا على ملوكهم مطالبين بها، لكن المستبدين الشرقيين يحاربون العلم جملة وتفصيلاً، “”كأن العلم نار وأجسامهم بارود” . ويضيف أن “الاستبداد الغربي وإن كان طويل الأمد إلا أنه يتصف باللين، أما الشرقي فإنه سريع الزوال، لكنه أكثر إزعاجاً وأشد وطأة على الرعية، وهو إذا زال يخلفه استبداد أشد وبالاً وأقوى سطوة وتعسفاً” .