حتى وقت قريب جداً كان العديد من المفكرين يعتبرون أن عهد الثورات
والانقلابات العسكرية، قد انتهى إلى غير رجعة وأن على الشعوب أن تنتظر
العدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقة، لحين تطور مجتمعاتها وأنظمة الحكم
المسيطرة عليها بشكل تدريجي، حتى تصل إلى مصاف الدول المتحضرة
والديمقراطية.
اشتعال ثورات الربيع العربي، أسقط هذه النظرية، حيث
ثبت أن العديد من الأنظمة العربية وصلت لحد التفسخ التام، وليس بإمكان أحد
أن يصلحها، كما لم يكن في نيتها أساساً أن تقدم ولو جزء بسيط من سلطاتها
للشعوب، بل أن بعضها سار عكس تيار التطور الحادث في العالم ليرجع مفهوم
توريث الحكم بدلاً من النظام الجمهوري الذي يتيح للشعوب اختيار حكامها بملء
إرادتهم، ذلك ما كان يدبر له في مصر واليمن.
كما أن الثروات الطائلة
والتي وصلت لعشرات المليارات من الدورات والتي كان يستحوذ عليها الحكام
دون وجه حق تاركين شعوبهم في مستنقع الفقر والحاجة، أثبتت أن هؤلاء الحكام
لم يكونوا غير لصوص لا يمكن أن يؤتمنوا على مصائر الناس.
ومع ذلك ما
حدث في أغلب دول الربيع العربي من حروب أهلية وطائفية وقبلية، بعد أن تخلصت
من حكامها، جعل البعض يردد بأن هذه الثورات لم تكن إلا وبالاً على الشعوب،
وخطأ فادحاً ما كان يجب أن يحدث، حيث كانت نتائجها أسوأ مما كان سائداً في
عهد الحكام الفاسدين، ولذلك يجب على الشعوب الأخرى أن لا تسير في نفس هذا
الطريق، وأن عليها أن ترضى بحكامها حتى وإن كانوا طواغيت وسراقاً، وإلا فإن
مصيرهم لن يكون أحسن حالاً مما يحدث الآن في مصر، والعراق، وتونس، وسورية.
لقد
ظلت الشعوب العربية ولعقود طويلة بعيدة عن الحراك الفكري العالمي، والتطور
التقني والعلمي، بسبب التجهيل المتعمد الذي مورس ضدها، وحتى الآن هناك من
يريد أن يجعل الجهل هو السائد.
وكما أن ثورات الربيع العربي قد أثبتت
حاجة الشعوب العربية للحرية والديمقراطية والعدل، فإن هذه الثورات قد طرحت
الحاجة الملحة لهذه الشعوب للإيمان بالمثل والقيم العليا للإنسانية؛
كالتسامح، والحب، وحرية الرأي، وحرية الآخر في الاختلاف، ونبذ التعصب
والطائفية والعنف، كل ذلك يحتاج إلى ثورة فكرية وتربية مختلفة عن ما هو
سائد الآن، وبحث علمي يقوم به علماء الدين لتقريب الناس من بعضهم البعض،
وتصحيح الموروث التاريخي للأمة، وما دون ذلك هو البقاء في خندق العنف
والجهل والتخلف والطغيان إلى الأبد.