في الولايات المتحدة ولمريديهم في بقية أنحاء العالم ليو شتراوس، “إن
أولئك المؤهلين والمختارين للحكم هم أولئك المتيقنون من عدم وجود مكان
للأخلاق، وإن هناك حقاً طبيعياً واحداً وهو حق المتفوقين في حكم المهمشين” .
هدي هذا الداعية الأمريكي من أصل ألماني، في ما يتعلق خصوصاً بمبدأي
التوظيف الدائم للخداع في السياسة، وتوظيف جذوة الدين في خدمة الأهداف
والمصالح السياسية، كقاعدة “ذهبية” لفلسفته السياسية في الحكم، سار أنصاره
من المحافظين الجدد في مهاجمتهم لكل صوت أو قلم يدعو لفصل الدين عن السياسة
وعن الدولة، من وحي إيمانهم “الفلسفي السياسي” الراسخ بالأهمية القصوى
للعاطفة والحماسة الدينية ودورهما المركزي في السيطرة على الجموع، وذلك على
الرغم من أن هؤلاء المحافظين الجدد يمكن أن يكونوا هم أنفسهم غير مؤمنين .
وهذا ما يفسر اصطفاف يهود علمانيين مثل وليام كريستول وواجهات إعلامية
للمحافظين الجدد خلف اليمين المسيحي المتطرف الذي يقوم بوظيفة تجهيل العوام
وتشتيت تركيز وعيهم .
تأثر شتراوس بصاحب كتاب “الأمير” نيكولو ميكافيللي (1469-1527) جلياً
وواضحاً من خلال استنساخه “الرشيق” لأفكاره، ومنها “أن النظام السياسي يمكن
أن يكون مستقراً فقط إذا اتحد في وجه تهديد خارجي، وإذا لم يوجد مثل هذا
التهديد فلابد من اختراعه”، ليتوج هذا “الجهد” التنظيري المتفذلك، ولكن
النافذ لعظم الفكر الإداري السياسي المؤسسي الأمريكي في آن، بالدعوة إلى
جنوح السياسة الخارجية (الأمريكية) نحو الحروب الدائمة عوضاً عن السلام
الدائم، وهو ما روجت له مؤسسات المحافظين الجدد مثل “أمريكان انتربرايز
انستيتوت” (American Enterprise Institute)، و”مشروع القرن الأمريكي الجديد” (Project for the New American Centruy PNAC)،
وصقورها مثل بول وولفويتز وريتشارد بيرل وألن بلوم وجاري شميت ولين تشيني
(زوجة نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني التي تعد من الشخصيات البارزة
في تسويق الفكر المحافظ الجديد في “أمريكان انتربرايز انستيتوت”)، ودونالد
رامسفيلد وزير الدفاع في إدارة بوش الابن الذي كان قد زكّاه نائب الرئيس
تشيني لهذا المنصب، وهو من مؤسسي “مشروع القرن الامريكي الجديد أيضاً”،
وأنه كان يقف شخصياً وراء عمليات التعذيب الممنهجة التي كُشِف النقاب عنها
في سجن أبوغريب وغوانتانامو، إلى جانب عدد آخر وافر من الذين ينتمون
أيديولوجياً إلى هذا المذهب الخطر الذين ضمتهم إدارة جورج بوش الابن . وفي
التدقيق سنجد أن جميع هؤلاء، من سفسطائيي أثينا القرن الرابع قبل الميلاد،
مرورا بنيكولو ميكافيللي، وفريدريك نيتشه، وتوماس مالتوس (1766-1834)
الاقتصادي والباحث السكاني الإنجليزي صاحب نظرية أن سكان العالم يتكاثرون
على شكل متواليات هندسية (،2 ،4 ،8 . . .16 .)، بينما يتكاثر الغذاء على شكل متواليات حسابية (،2 ،4 ،6 ،8 .
.10 .)، ما يستدعي شن الحروب ونشر الأمراض للتخلص دورياً من “الفائض”
السكاني . . وصولاً إلى المحافظين الجدد، جميعهم ينهلون من نبع واحد وهو
حصر الحق في صفوة منتخبة من أولئك الذين يتميزون بخواص نوعية تفوقية
ويحوزون القوة وأسبابها، بما يعطيهم الحق، ترتيباً، في التمتع بخيرات الأرض
وتسخير ما عليها ومن عليها من “الفائض” البشري الهامشي في مصلحتهم وفي
تحقيق غاياتهم . والفرق أن “مالتوس” كان أكثرهم “جرأةً وفصاحةً” في التعبير
الصريح عن هذا المبتغى أو الغاية على حد تعبير ميكافيللي، مثلما كان
“بسمارك” أكثر عملانية في تطبيقاته لرؤية نيتشه، تماماً كما فعل المحافظون
الجدد في الولايات المتحدة الذين تجاوزوا القول إلى التطبيق “البسماركي”
النموذجي لمرئيات شتراوس وأسلافه النظيرين، من دون الاضطرار للتصريح بذلك
والاصطدام بالبوتقة الديمقراطية للنظام المؤسسي .
نعم
لقد فقد المحافظون الجدد سلطة حكم البيت الأبيض بعد أن نجح مرشح الحزب
الديمقراطي باراك أوباما في إلحاق الهزيمة بمرشحهم (مرشح الحزب الجمهوري –
الواجهة الرسمية للحزب الجمهوري وواجهته الفرعية حزب الشاي) جون ماكين في
انتخابات عام ،2008 وهزيمة مرشحهم الآخر ميت رومني في انتخابات عام 2012 .
ولكن التقاليد التي أرسوها في الحكم، والمؤسسة على ثالوث الفلسفة السياسية
للأب الروحي للتيار المحافظ الجديد في الولايات المتحدة والعالم ليو
شتراوس، وهي ضرورة استخدام الخداع (Deception)
في السياسة، لاسيما في السياسة الخارجية، وتوظيف المشاعر والحماسة الدينية
في السياسة، والتوسع في توظيف النزعات القومية في خدمة الأهداف السياسية .
إضافة إلى مبدأ شتراوس الفلسفي السياسي الذي اشتقه على ما هو واضح من
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ومن نظرائه البائدين من سفسطائيي أثينا
القرن الرابع قبل الميلاد، والمتمثل في أن هناك حقاً طبيعياً واحداً هو حق
الصفوة المتفوقة في حكم كل الفئات المهمشة . . وكل ذلك في إطار الهدف
“الفلسفي” السياسي الأكبر، وهو كيفية التحكم في المجتمعات والسيطرة عليها
وإدارتها بطريقة مستديمة وآمنة .
ورغم
فقدانهم لحكم البيت الأبيض فإن المحافظين الجدد مازالوا محافظين على قاعدة
عريضة من مراكز نفوذهم المفتاحية سواء داخل “السيستم” (النظام المؤسسي
بالإجمال) أو المؤسسات الواقعة خارجه شكلاً والداعمة له (والتابعة له
ترجيحاً) مضموناً . صحيح أن هذا التيار اليميني الذي لا تبتعد أيديولوجيته
كثيراً عن منازل الفاشية، الكلاسيكية منها والجديدة الذي بلور نفسه وبرز
بشكل قوي وصريح، حين أعلن وقوفه الشرس ضد ما سمي ب”الصفقة الجديدة” (New Deal)
التي كانت حزمة برامج اقتصادية نفذتها إدارة الرئيس الأمريكي فرانكلين
روزفلت من 1933 (بداية أزمة الكساد العظيم) حتى 1939 (عشية اندلاع الحرب
العالمية الثانية) بوصمها بالليبرالية، المتعارضة – على ما يذهب إليه
مذهبهم الأيديولوجي – مع القيم الأمريكية المحافظة، قبل أن يحصل على فرصة
ازدهاره إبان ولاية الرئيس الراحل رونالد ريغان، ومن ثم يتحول إلى منظومة
حكم وإدارة كلية مجتمعية شمولية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، صحيح
أنه قد تلقى هزيمة معنوية ومادية فادحة باستعادة الديمقراطيين سلطة حكم
البيت الأبيض برئاسة باراك أوباما في عام ،2008 إلا أن تطبيقات مذهبهم
مازالت فاعلة بشكل جسور في التوجهات العامة والخاصة للسياسة الأمريكية
الداخلية والخارجية، ومازالت روح ورموز الأب الروحي للحركة حاضرة بقوة في
الحياة الأمريكية، من بينها على سبيل المثال لا الحصر “مركز ليو شتراوس” (Leo Strauss Center)
المختص بترويج أفكار شتراوس وتسويقها عبر نشر مطبوعاته وتسجيلاته الصوتية
على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة وخارجها . . و”جائزة شتراوس” (Leo Strauss Award)
التي تُمنح سنوياً لأفضل رسالة جامعية في مجال الفلسفة السياسية، وقيمتها
المادية رمزية (750 دولاراً) يتم جمعها من مريدي فكر شتراوس من طلابه
السابقين في جامعة شيكاغو التي درّس فيها من 1949 إلى 1967 .