المنشور

ما بين الطائفة والمواطنة في الدولة المدنية الحديثة – يعقوب سيادي

المواطنة هي الطائفة الأعم والأكبر، والجامعة التي تجمع مواطني
الدولة، وتتفرع منها طوائف وجماعات أخرى تصغر وتكبر، في أغلبية وأقلية، هذه
الطوائف والجماعات لا تنسلخ عن الأصل في المواطنة، وهي الأساس، وإنما
تجمعها انتماءات فرعية متعددة، قد تكون دينية أو مذهبية أو سياسية أو
فكرية، لذلك فعدالة الدساتير والقوانين، وسواسية المواطنين
وكرامتهم، أمامها، تخضع للتصنيف الأساسي للمجتمع في المواطنة.

الطائفة أو الجماعة، سواء كانت إثنية، دينية، مذهبية، قبلية أو عائلية،
سياسية، مهنية أو علمية تخصصية، هي واقع اجتماعي، لا غبار عليه، وترى بعض
الطوائف والجماعات الصغيرة تندمج بالتقارب في طائفة أو جماعة أكبر، ولكن
أكبر الطوائف هي الطوائف الدينية، بين الإسلامية والمسيحية مثلاً، ومثل
الطوائف المذهبية، بين الطائفة الشيعية والسنية، وكلتا الطائفتين، تجتمع
تحت عباءتهما، طوائف وجماعات أصغر منها من اختلافات فقهية دينية، ومثلها
الجماعات السياسية، التي تجمع بين أفراد من هذه الطوائف الدينية والمذهبية،
لتتطيّف حول رؤية سياسية مشتركة، فلا يعيب أحد غيره إن انتمى الى طائفة
غير طائفة الآخر، وإن فعل فإنما أعاب غيره بما في نفسه.

المجتمع منذ أمد التاريخ وفي الحداثة، تأسس على أساس الطوائف والجماعات،
التي بدأت من الأسرة ثم العائلة، في شد أزر أفرادها لبعضهم البعض، وكذلك
في القبيلة، إلا أن المرحلة التاريخية الاجتماعية، حكمت العلاقات بين أفراد
هذه الطوائف والجماعات، وتوالدت لعلاقاتها أعراف بمثابة القوانين، التي
فرضها التطور الفكري الاجتماعي عبر مراحل التطور.

ولن نطلق العنان للسباحة الى ظلام التاريخ، فما انقضى منه قد انقضى، وما
عاد منه إلا أنه عتبات اندثرت إلا أنها قادت المجتمعات، وأرّقتْ البشرية
الى الدولة الحديثة، في علاقات الطوائف والجماعات ببعضها، وتراكم الخبرات
البشرية الاجتماعية والسياسية، التي أوجدت القوانين الحديثة، تلك القوانين
المحلية والإقليمية، التي عابها بعض القصور، في فترات سيادة الطائفة أو
الفرقة الأقوى، من حيث استحواذها على مصادر ووسائل الثروة والقرار، وتمكنها
من الهيمنة العنيفة أو التهديد بها، ضد باقي طوائف وجماعات المجتمع، ما
صغر منها وما كبر، ما جعل الآخر الواقع عليه الظلم الاجتماعي، يبدأ في
التململ، وإطلاق الصوت نداءً لحقوقه.

بدأت المجتمعات في التكوين البشري لها، بالهجرة من بقاع مختلفة، تنقصها
سبل العيش الأساسية، الى تلك البقاع الأيسر عيشاً، سواء عن طريق الهجرة
الفردية والعائلية، أو عبر الهجرات القبلية، وسواء كانت تلك الهجرة سلمية
في مهاجريها وفي مستقبليهم، أو كانت عنيفة عبر حروب الاستيلاء، التي قادتها
الاكتشافات الجغرافية للبقاع البعيدة، ما جعل إجمالي الكرة الأرضية،
مسرحاً للهجرة منها وإليها.

وهكذا استقرت الشعوب، كل في مساحة من الأرض بما فيها من مصادر طبيعية،
وما حولها من بحار بثرواتها الأحيائية، بغض النظر عن قاطنيها الأصليين
والوافدين اليها، وتطور النظام الاجتماعي لكل من هذه الشعوب، تفاعلاً
بداخلها وتأثراً بغيرها من أنظمة الشعوب الأخرى، الأمر الذي أوجد الحاجة
الاجتماعية والسياسية، لترسيم الحدود، وبدء الانتماء الحدودي (الوطني) لهذه
الشعوب، الذي خلق علاقات التعاون في بعضها والتضاد في بعضها الآخر، ما نشأ
على إثرها مفهوم الدولة، المحدد في عناصرها الثلاثة، الأرض والشعب وسلطات
إدارة الدولة، وتطورت في الدولة، العلاقة بين الشعب والسلطات، من الاحتكار
الى الشراكة في الدولة المدنية الحديثة، ثم الى سيادة الشعوب على سلطاتها
ومصدريتها، لترتقي العلاقة بين الأفراد وفي تشكيل السلطات، على أساس
المواطنة المتساوية الحقوق والواجبات.

ومن حيث طبيعة الإنسان كما باقي الخلق، في ميله الى الالفة والاجتماع،
بقيت الطوائف، وستظل الى الأبد، ما أوجد في الدولة المدنية الحديثة آليات
ومعايير جديدة لخلق الطوائف وعلاقاتها ببعضها، في مؤسسات المجتمع المدني،
التي توسعت بالإضافة الى الطائفة الدينية والمذهبية، الى الجماعات السياسية
والمهنية والتخصصية، والعمرية والجندرية، وتطورت أسس قوانين العلاقات الى
مبدأ المواطنة، في استنان الدستور الذي يؤسس لتشريعات القوانين المختلفة،
في علاقة فردية ما بين جميع المواطنين في الدولة، بأسس ثلاثة، الكرامة
الإنسانية والعدل والمساواة.

فالمواطنة هي الطائفة الأعم والأكبر، والجامعة التي تجمع مواطني الدولة،
وتتفرع منها طوائف وجماعات أخرى تصغر وتكبر، في أغلبية وأقلية، هذه
الطوائف والجماعات لا تنسلخ عن الأصل في المواطنة، وهي الأساس، وإنما
تجمعها انتماءات فرعية متعددة، قد تكون دينية أو مذهبية أو سياسية أو
فكرية، لذلك فعدالة الدساتير والقوانين، وسواسية المواطنين وكرامتهم،
أمامها، تخضع للتصنيف الأساسي للمجتمع في المواطنة، وما للتفرعات الطائفية
والجماعية الأخرى إلا النزوع الى حماية حقوق أفرادها الخاصة، التي تندرج
تحت الحقوق العامة للمواطن، دون تمييز ولا مس لأفراد طائفة بعينها على حساب
الطوائف الأخرى في المجتمع.

فللطوائف والجماعات حق في توفير الدولة لها الاحتياجات الفرعية، وعلى
القدر نفسه بحسب احتياجات الطوائف والجماعات الأخرى، في تقسيم الموارد
المخصصة لهذه الاحتياجات لكل طائفة وجماعة تكافلاً، في – مثلاً – بناء
المساجد والكنائس للطوائف الدينية، والمساجد والمآتم والمضائف، للطوائف
المذهبية، والمقار والدعم المالي للطوائف والجماعات السياسية والمهنية
وغيرها من طوائف وجماعات الدولة المدنية الحديثة، أما الحقوق العامة
للمواطنين، من السكن والعمل والرعاية الصحية والتعليمية، والحقوق المدنية
والسياسية الخ، وكذلك الواجبات والمحاسبات العامة، فهي متساوية لجميع
المواطنين، وواجب على الدولة، أن تحفظ لكل طائفة أو جماعة، كيانها،
وحمايتها من التطاول والمس بها من قبل الطوائف والجماعات الأخرى.