المنشور

من التالي بعد بلعيد والبراهمي؟



في
السادس من فبراير/شباط ،2013 اغتيل الزعيم اليساري التونسي، المعارض
العنيد، شكري بالعيد برصاص الغدر الإرهابي الأسود أمام منزله . وقد علقنا
يومها على هذه الجريمة في مقال نشر على هذه الصفحة عَنونّاه “شكري بلعيد
ليس الأخير” . 


وهاهي
يد الغدر تمتد مرة أخرى لتغتال الزعيم الوطني والقومي الناصري التونسي
البارز محمد البراهمي، أيضاً أمام منزله، لكي يكون للجريمة وقع صادم أكبر
على أفراد أسرته وعلى التيار الوطني الذي يمثله وعلى أبناء الشعب التونسي
الذين يرون في البراهمي أحد الأعمدة الصلبة التي يتكئون عليها ذودا عن
مصالحهم .


وسيكون
ضرباً من الوهم والسذاجة بمكان الاعتقاد أن قائمة اغتيال الرموز والقيادات
والشخصيات الوطنية البارزة تقتصر فقط على اسمي الشهيدين بلعيد والبراهمي .
فالثابت من وقائع الأمور الجارية على الساحة التونسية على مدى العامين
الأخيرين، ومن تسلسلها، ومن البيئة، الرسمية وغير الرسمية، الحاضنة للظاهرة
الارهابية، إن لم تكن راعية لها، ولمجاميعها المتدثرة بأردية مختلفة، أن
هنالك أجندة خفية لهذه الجماعات التكفيرية التي تحتفظ بعلاقة مريبة مع
أحزاب الاخوان المسلمين الحاكمة في تونس وغيرها من البلدان التي ضربتها
أعاصير “الربيع العربي” .


غنيٌ
عن القول إن تونس من الدول العربية القليلة جدا التي قطع فيها مسار
التمدين التراكمي على طريق بناء الدولة المستجيبة لشروط الحداثة والحضارة
المعاصرة، شوطاً كبيراً . . وهي التحولات التي أنتجت، طبيعياً، رموزاً
ومعالم للدولة التونسية المدنية الحديثة .


فكان
لابد من تصفية هذا الإرث الحضاري التقدمي لوقوعه على تضاد مع المنظورات
الايديولوجية الماضوية للجماعات التكفيرية التي ازدهرت سوقها تحت أفياء
أنظمة الحكم الإسلامية الجديدة، إذ ترى هذه الجماعات في هذا الإرث “لبوسا”
غريباً على البيئة ونمط الحياة الإسلاميين، وترى في الرموز والشخوض التي
تمثل كل تيارات التحديث والعمران، على حد تعبير عبدالرحمن بن خلدون الحضرمي
(1332-1382)، أهدافا ل”الإزالة” بسبب انحيازها للإنسان ولقيم التسامح
والتقدم .


وبهذا
المعنى، وفي جريمة الاغتيال الجديدة، لا تخدعنك هرولة وزير الداخلية
التونسي لطفي بن جدو، لعقد مؤتمر صحافي خصيصاً للكشف بسرعة البرق عن هوية
منفذ جريمة اغتيال البراهمي، وهو، كما قال، السلفي بوبكر حكيم، المسؤول
نفسه، حسب الرواية الحكومية، عن مقتل الشهيد شكري بلعيد، وباستخدام السلاح
نفسه في عمليتي الاغتيال!


فهل
يُعقل أن يتم التعرف إلى هوية منفذ جريمة اغتيال البراهمي في ظرف أقل من
24 ساعة، بينما بقي التحقيق في جريمة اغتيال بلعيد أسير المراوحة والمراوغة
والتسويف، على الرغم من أن هذا الارهابي الخطير، كان معروفا لدى السلطات،
وهو متورط في أكثر من عمل جرمي، ناهيك عن أنه كان يقيم في منزل يقع على
مقربة من سكن الشهيد شكري بلعيد، وكان قيد المراقبة والتعقب، كما أفصحت عن
ذلك السلطات التونسية . فما الذي منعها من اعتقاله؟!


المثير
والباعث على الارتياب أن نور الدين البحيري الوزير المعتمد لدى رئيس
الحكومة علي العريض وقبل 24 ساعة من اغتيال الرمز الوطني محمد البراهمي، أي
يوم الأربعاء 24 يوليو الماضي، عقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه أن الحكومة
التونسية المؤقتة (التي يهيمن عليها حزب النهضة) تعرّفت إلى “مدبري ومنفذي”
عملية اغتيال المعارض اليساري البارز شكري بلعيد . وكان رئيس الحكومة علي
العريض قد أعلن في 26 فبراير/شباط الماضي، وكان حينها وزيراً للداخلية، عن
اعتقال ثلاثة أشخاص مشتبه فيهم في مقتل بلعيد . لتعود وزارة الداخلية في
إبريل/نيسان الماضي وتعلن أنها تلاحق 5 مشتبهين هاربين بينهم القاتل
المفترض كمال القضقاضي المحسوب على التيار السلفي، علماً بأن كمال القضقاضي
هذا هو رفيق بوبكر حكيم الذي تتهمه الحكومة باغتيال محمد البراهمي!!


ماذا
يعني هذا؟ . .هل هو يعني أن وصول الإخوان إلى الحكم في تونس قد فتح الباب
على مصراعيه لتمكين وتسهيل عمل ونشاط الجماعات التكفيرية بكل حرية وتجاسر؟ .
.سواءً تم ذلك بتواطؤ أو تغاضي من حكامها الجدد؟


من
الواضح أن هذا هو بالضبط ما حدث تماماً، على ذات المنحى الذي سارت عليه
الأحداث في مصر وليبيا واليمن تالياً . الأمر الذي جعل ما كان يُسمع عنه
ويُشاهَد عبر التلفاز في جبال ووديان أفغانستان وباكستان من روايات ومشاهد
طالبانية وقاعدية، بعضها يعود إلى ما قبل التاريخ الميلادي، واقعاً مُعاشاً
في كثير من الأنحاء العربية . حتى غدت الظاهرة الإرهابية العنوان الأبرز
والأهم في قائمة التحديات التي تتهدد المستقبل العربي .


إنه
سؤال في غاية الصعوبة، خصوصاً بعد التعقيدات التي أضافها للمشهد، دخول
حركة الإخوان المسلمين على خط أزمة افتكاك عقدة التطور والتحول الانتقالي
السلس للمجتمعات العربية .