لقياس حجم التراجعات العربية علينا فحص الخطابات السياسية الرائجة، وقراءة التحولات التي شهدتها، في ما يتصل بالمسألتين الوطنية والقومية، على مستوى كل بلد عربي على حدة بالنسبة للأولى، وعلى المستوى العربي العام بالنسبة للثانية .
شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية موجة الاستقلال الوطني لأغلب البلدان العربية، وانحسار الهيمنة الأجنبية في صورها المختلفة: الاستعمار المباشر، الانتداب، الحماية، الوصاية، وقيام الدول المستقلة، ورغم أن الكثير من الكيانات الجديدة رسمت حدودها بصورة اعتباطية وفق أهواء واضعي اتفاقية سايكس بيكو، ألا أن الفكر الوطني، والقومي بالنتيجة نظر إلى هذه الحدود على أنها مصطنعة، وإلى زوال، أمام قوة وجاذبية فكرة الوحدة العربية، التي شكلت عصب التيارات القومية، وحتى تلك التيارات التي ركزت على الهوية الوطنية لكل بلد عربي على حدة، لم تضع ذلك كمقابل أو نقيض لفكرة الوحدة العربية، بقدر ما رأت فيها تعزيزاً لهوية جامعة تجمع بين ثناياها فسيفساء متعدد، يغني ولا يفرق، يجب ضمان العيش المشترك بين من يمثلونه من خلال آليات الديمقراطية والحداثة .
عوامل إخفاقات الدولة القطرية العربية، وعجزها عن التقدم في إتجاه تحقيق الوحدة العربية القابلة للبقاء بين كيانين عربيين أو مجموعة كيانات كثيرة، ولكن في الظرف الراهن علينا ملاحظة أن تراجع دور ومكانة التيارات القومية والتقدمية لمصلحة تيارات الإسلام السياسي لم يؤد فقط إلى تراجع فكرة الوحدة القومية، وحدة العالم العربي في كيان واحد، وإنما إلى تفكيك الخطاب الوطني نفسه لمصلحة الإعلاء من الهويات المذهبية والإثنية، ما ينذر بتفكيك الكيانات الوطنية ذاتها، لا لمصلحة الوحدة، وإنما في إتجاه ما هو دون الوطني، أو أقل منه .
الإسلام السياسي مأخوذ بفكرة الدولة الإسلامية، في صورة الخلافة أو في غيرها من الصور، وبالتالي فإنه لا يقيم وزنأً للكيان الوطني للدول، حتى لو كانت هذه الدول بأهمية ومحورية وقوة دولة مثل الدولة المصرية المعروفة برسوخها، وبحفاظها على وحدة أراضيها منذ قرون، يعزز ذلك كون تنظيمات الإسلام السياسي ليست ذات منشأ وطني، فهي تنظيمات عابرة للحدود، وتضم في قوامها أفراداً من جنسيات مختلفة، عربية وغير عربية، لذا فإنها أعجز من وضع برامج للتنمية وضمان السيادة لأي بلد تنشط فيه، فهذا ليس ضمن أجندتها .
لقد تراجع الخطاب من المستوى القومي إلى ما هو دون الوطني .