ثمة فكرة جوهرية، فحواها أن أقوى سند قُدم ويُقدم لبعض القوى غير
الديمقراطية في بنيتها الفكرية والسياسية، هو إبقاؤها في خانة المعارضة،
وعدم الدفع بها لأن تضع ما تعد به من برامج على محك الاختبار الفعلي، لأنه
من السهل جدا رفع الشعارات المعارضة، والذهاب بها إلى أقصى الاحتمالات، لكن
المعضلة تنشأ حين يصبح المعارضون في موقع القرار، حيث يتعين عليهم إثبات
أنهم قادرون على تصحيح الأخطاء والتجاوزات التي كانوا ينتقدونها.
وهذا ينطبق إلى حد كبير على كل قوى الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة
«الإخوان المسلمين» التي تعد أفضل هذه القوى تنظيما، وأطولها عمرا وعراقة،
حيث تجاوز عمر الحركة العقود الثمانية، وإلى ذلك، فإن الإخوان المسلمين
موصوفون بكونهم الأكثر براغماتية من بين هذه القوى، لكنهم فشلوا فشلا ذريعا
خلال عام من حكمهم لمصر، ويمكن القول إنهم أسقطوا أنفسهم من الحكم
بأياديهم، حينما استعدوا الغالبية الساحقة من المصريين ضدهم، وبالنتيجة،
فإن فشلهم هو فشل ذريع للإسلام السياسي كله، المطالب اليوم بمراجعة سياسية
وفكرية عميقة وشاملة، إن أرادت تنظيماته البقاء في الحياة السياسية كقوة
قادرة على العمل مع الآخرين والتفاعل معهم، بروح الشراكة لا العمل بروح
الفرقة الناجية التي تريد إقصاء الجميع.
السيناريو الذي حدث في الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي، وما تلاه كان
موضع توقع من بعض الباحثين النابهين الذين حللوا الشق الاجتماعي –
الاقتصادي في برامج القوى الإسلامية التي صعدت إلى السلطة، أو حققت نجاحات
لافتة في الانتخابات التي شهدتها بعض البلدان العربية، وفي مقدمتها مصر،
حيث لاحظ هؤلاء الباحثون أنه من حيث الجوهر لم يقدم الإخوان المسلمون، لا
في مصر ولا في غيرها من البلدان التي استووا إلى السلطة فيها، برنامجا
مختلفا عن ذلك الذي كانت الأنظمة السابقة تطرحه، من حيث العلاقة مع قضايا
التنمية والتبعية، ومعالجة المشكلات المعيشية الحادة كالفقر والسكن وفرص
العمل والتأهيل المهني وغيرها.
لذا، فإن ما بدا، منذ نحو عام فقط، نجاحا، تحول مع الوقت إلى مأزق، حين
انتظرت الجماهير الغفيرة التي منحت أصواتها لهذه القوى تحسنا ملموسا في
أوضاعها فلم تجده، وحين شعرت القوى الحديثة بأن ما تحقق بفضل تحولات مديدة
في مجتمعاتها من منجزات يتعرض لمخاطر المصادرة من قبل القوى الصاعدة مؤخرا،
وحين يطرح المجتمع على نفسه أسئلة كبرى عن مآل الأمور، وهذا ما وعاه
الإخوان، فأرادوا معاجلة التململ الشعبي والسياسي من أدائهم بقرارات متخبطة
أثارت الذعر في المجتمع الذي لمس مساعيهم لمصادرة كامل الفضاء السياسي في
البلاد، وأيقن أن الإسلاميين يؤمنون بديمقراطية المرة الواحدة فقط التي
تمكّنهم من الوصول للسلطة، ومن بعدها فليكن الطوفان.
المراقبون لاحظوا حجم التداعي الخليجي لدعم النظام الجديد الذي حملته إلى
الحكم الموجة الشعبية العارمة التي اقترنت بتدخل حاسم من الجيش المصري، من
خلال تدفق الإعانات المالية الضخمة لمصر من المملكة العربية السعودية ودولة
الإمارات والكويت، وقد عكس هذا الموقف السريع الذي لم يعرف ترددا أو
انتظارا قلقا خليجيا مشروعا من حالة الفوضى السياسية التي عاشتها مصر خلال
عام، ومن أبعاد المشروع الإخواني، لا على الصعيد المصري وحده، وإنما على
الصعيد العربي العام، أخذا بعين الاعتبار أن جماعة الإخوان المسلمين تنظيم
دولي عابر للحدود، وليس من أولوياته صون السيادة الوطنية للدول التي يحكمها
أو تلك التي يتطلع إلى أن يحكمها، أو أن يصبح قوة مؤثرة في مسار الأمور
داخلها.
ويبدو منطقيا، والحال كذلك، أن تستقبل دول الخليج، في غالبها الأعم، التحول
الذي حدث في مصر بالترحاب، وأن توفر له ما تستطيع من أسباب الدعم
والاستمرارية، ففي ضمان أمنها واستقرارها ضمان لاستقرار منظومة الأمن
العربي، التي يشكل الإقليم الخليجي أحد أركانها بوجه الاستقطابات الإقليمية
الحادة، التي شهدت نوعا من التقابل، أو التجاذب، بين إيران وتركيا، وهو
تجاذب على النفوذ، حتى لو تزيا بالزي المذهبي أو الطائفي؛ سواء في أنقرة أو
في طهران، وكان المراد الزج بالعالم العربي في أتون هذه اللعبة الخطرة.
استعادة مصر من قبضة الإخوان يمكن أن تؤسس لاستعادة التوازن الذي اختل في
المنطقة، بالنظر إلى المكانة الاستراتيجية لمصر ودورها المحوري الذي شهد
المزيد من التراجع خلال العام المنقضي، والدعم الخليجي المالي مهم لتمكين
البلد المنهك اقتصاديا للخروج من عنق الزجاجة، ولكن ذلك ليس كافيا، بل يجب
أن يقترن بدعم حاسم للمسار السياسي الذي رسمته خريطة الطريق التي أعلنت
عنها القوات المسلحة، والمدعومة شعبيا على نطاق واسع، لكي تعبر البلاد
الفترة الانتقالية بسلام، بأن تضع دستورا يحمي الطابع المدني لمصر الحديثة،
وتجري انتخابات رئاسية، تؤمّن استيعاب كل القوى الراشدة في العملية
السياسية من دون إقصاء، كما تؤمن عودة الجيش إلى ثكناته، ليصبح ضامنا
لشرعية الدولة وحماية استقلالها وسيادتها الوطنية وسلامة حدودها.