المنشور

اخطاء «الاخوان» تقود إلى الثورة المصرية الثانية – شفيق ناظم الغبرا



لم ينجح النظام المصري بقيادة الرئيس محمد مرسي في تقديم استجابة مناسبة
لظروف مصر الجديدة والملتهبة. فقد ظل النظام الجديد، الذي ورث نظام حسني
مبارك بعد ثورة ٢٥ يناير، محل شك وتحت الاختبار من جانب الشعب المصري. وقد
استمرت الاتهامات الموجهة إلى النظام الجديد من المعارضة منذ انتخاب الرئيس
في حزيران (يونيو) ٢٠١٢ مؤكدة وجود حالة استبعاد، فرض للدستور، أخونة،
ارتجال، سوء إدارة، تلاعب في مناطق صناديق الاقتراع، مما شكك في قدرة
النظام الجديد على إدارة وضع بلد بحجم مصر. وفي البداية لم تكن غالبية
المصريين لتستمع الى اتهامات المعارضة بحق الرئيس انطلاقاً من أنها اتهامات
منحازة وأنه يجب تجربة الرئيس. لكن فوز مرسي بنسبة ٥١ في المئة من مجموع
الأصوات عنى موضوعياً ان الـ ٤٨ في المئة الآخرين ممن صوتوا للفريق احمد
شفيق خوفاً من «الإخوان» وعلى حرياتهم الشخصية (قطاع كبير ممن صوتوا للفريق
شفيق كانوا مناصرين ومشاركين في ثورة ٢٥يناير) هم في حالة تشكك دائم، وأن
حصول تفكك في الجبهة التي ساهمت أساساً بفوز الرئيس مرسي و «الإخوان»
سينعكس على مجمل التحالفات، لهذا فالاستقالات والخلافات حول الدستور
وكتابته وبروز جبهة الإنقاذ (وهذه فئات انتخبت الرئيس) كانت بداية النهاية
لأنها عنت تراجعاً كبيراً في وضع رئيس انتُخب بفارق بسيط بعد ثورة لا يزال
الكثير من ممثليها في الشارع وخارج السلطة. 


الرئيس مرسي لم يأخذ في الاعتبار ان السياسة الناجحة بعد فوز ضعيف يجب
ان تكون قادرة على تحقيق إنجازات واضحة لإقناع الذين انتخبوه بصحة خيارهم
ولإقناع من عارضوه من الـ ٤٨ في المئة المتشككين بضرورة الالتفاف حول
سياساته. لكن عدم نجاح مرسي مع الذين صوتوا له في البداية ثم مع الذين لم
يصوتوا له هو الذي دفع بالوضع في مصر إلى هذه الثورة. فمع الوقت وعلى مدى
عام قامت تحالفات جديدة وتم تحفيز فئات المجتمع من الغالبية الصامتة بسبب
سوء إدارة النظام الجديد وضعف قدرته على احتواء الناقدين وبسبب تخبطه. 


الحالة المصرية نموذج بامتياز لما قد يقع بعد ثورة كبيرة وشاملة من نمط
٢٥ يناير ٢٠١١، فمن يتصدر المشهد في البداية ويستعجل حصد نتائج الثورة يدفع
ثمن هذا التصدر ولن يكون موجوداً في الواجهة في مراحل لاحقة ان لم يحسن
الادارة والاحتواء والتحالف والتنازل والمساومة. فالثورة المصرية كانت في
البداية ثورة مشتركة بين فئات عدة، وهي في هذا مختلفة عن الثورتين الروسية
والإيرانية، والثورة المصرية حتى اللحظة ثورة مشتركة بين فئات عدة، لهذا
فمن يسعى للاستحواذ أكان الجيش ام «الاخوان» او غيرهما سيدفع ثمناً كبيراً
من رصيده ومكانته ومستقبله. 


لقد أخطأت الجماعة (تيار «الإخوان المسلمين») إستراتيجياً عندما تراجعت
عن موقفها الأول بعد ثورة ٢٥ يناير والقاضي بعدم الاستفراد وبعدم ترشيح
رئيس للجمهورية منها، وأكدت الجماعة بعد الثورة انها لن تسعى الى أكثر من
ثلث مجلس الشعب حتى لو استطاعت الحصول على أكثر. كنت أعتقد حينها أنها فعلت
كل هذا لأنها تعلم أن الثورة التي وقعت في مصر كانت مدنية ولم تكن إسلامية
وكانت مشتركة ولم تكن لفصيل محدد. هذا التواضع في البداية شجع الكثيرين
على الثقة بحكمة «الإخوان» وإمكانية ان يكونوا جسراً ايجابياً في المرحلة
الانتقالية. لكن موقف «الإخوان» تغير مع الوقت لمصلحة ترشيح رئيس للجمهورية
والسعي لأخذ أكبر عدد ممكن من المقاعد في مجلس الشعب والشورى في ظل
انتخابات شابها الكثير من التساؤلات. وقد سعت الجماعة لفتح عشرات المقرات
في مصر بما في ذلك المقر الذي تم فتحه في المقطم والذي يطل على القاهرة.
وعندما زرت المقر بعد افتتاحه لإجراء حوار مع احد قادة التيار كنت أشعر أن
هذا من حق التيار، لكنني كنت أتساءل إن كان «الاخوان» سيعيدون، من دون قصد،
استنساخ صيغة شبيهة بالحزب الوطني ومقراته وطريقته. 


بعد عام من حكم الرئيس مرسي انتقلت المبادرة الى الشارع بعد أن تبين أن
الرئيس لا يعرف ماذا يريد وكيف يحققه وربما لا يحكم بصورة مباشرة. لقد أدت
حالة التآكل في الدولة المصرية وأزمة كتابة دستور بصورة شبه منفردة وتهميش
للفئات المجتمعية الأخرى بما فيها الثورية التي صنعت الثورة في ظل تراجع
الخدمات والبنزين والكهرباء والعمل والاستثمار الى زيادة منسوب الغضب
الشعبي. بل أدى خطاب الرئيس منذ أسبوع الى أكبر خيبة امل، فقد وضح من خلال
الخطاب ان الرئيس كان معزولاً عن مجرى الأوضاع في الشارع، مما ساهم في
انضمام فئات جديدة الى حركة «تمرد» التي جمعت ملايين التوقيعات مطالبة
باستقالة الرئيس وبانتحابات مبكرة.


وبينما لا يستطيع الجيش في مصر إلا الانحياز الى الشعب بملايينه وذلك
لتفادي انهيار الدولة وتفككها، إلا أن الرئيس مرسي تجاهل في خطابه ليل اول
أمس حجم الحدث المصري الشعبي ومغزاه من منطلق التمسك بالشرعية. كان الافضل
للرئيس القبول بانتحابات مبكرة، لأن البقاء من الآن فصاعداً سيجعل خسائر
الرئيس وحزب «العدالة والتنمية» و «الإخوان المسلمين» أعلى. على الأغلب كان
الخطاب الاخير لمرسي مناسباً لو قيل قبل أسبوع، لكنه جاء متأخراً عن حركة
الشارع وسيساهم في حشد مزيد من الناس ضد الرئاسة. 


إن خطأ الرئيس مرسي هو الانطلاق من أن صراع الشرعية في مصر مرتبط فقط
بصندوق الاقتراع. لكن الأمر أعقد من هذا، بل يرتبط بمدى قبول الناس بالرئيس
بعد ارتكابه أخطاء رئيسة جعلت شرعيته تسقط في أعين المجتمع، والمشهد مرتبط
باستمرار وجود شرعية ثورية نتاج مراحل الثورة المصرية وتحولاتها. لهذا
عندما ينزل ملايين من الناس إلى الشارع من الصعب أن تصمد شرعية مهما كانت
راسخة. إن الشارع لا يلتئم كل يوم بمشهد مثل الذي نراه في مصر. إن تجاهل
نزول ملايين المصريين الى الشارع انتحار سياسي للفصيل الذي يجرؤ على هذا
التجاهل. 


ان الحديث عن دور خارجي في تفسير المشهد المصري فيه الكثير من الاستخفاف
بالشعب المصري وبالأعداد الهائلة التي اندفعت مطالبة بالتغيير، فالظاهرة
في مصر داخلية ومحلية بكل الأبعاد، لكن هذا لا يعني ان أطرافاً عربية
ودولية لم تتداخل، لكن الأهم أن قيمة مواقف او تداخل هذه الاطراف، أكانت
اميركية ام عربية هي ثانوية نسبة الى الوضع الداخلي الرئيسي الذي يحرك
المشهد: فشل تجربة مرحلة الانتقال وبروز أجواء ثائرة على الوضع في الوسط
المصري الشعبي. في امكان الأطراف الخارجية التأثير في فئة وجماعة بهذا
الاتجاه وبذاك، لكنها لا تحرك ملايين الجماهير الواسعة المكونة من ريف
ومدينة وفقراء وأغنياء، وطبقة وسطى من نساء ورجال وشباب وحركات ثورية
ملتزمة بمبادئها. 


ان ما يقع في مصر يؤكد أن الثورة المصرية متجددة كما أنها تمر بمراحل
ودورات. كما يؤكد ما يقع في مصر أن «الربيع العربي» ليس إسلامياً كما يعمم
ناقدو الربيع، بل الربيع في جوهره إنساني ديموقراطي مدني ومشترك يطالب
للشباب العربي وللشعوب بحقوق وتقرير مصير وتداول سلمي على السلطة. التيار
الإسلامي مرحلة من مراحل الربيع العربي، والتيارات المعارضة الرسمية
التقليدية هي الأخرى تيارات آنية وستمثل مرحلة من مراحل الربيع، بل ان
الطبقة السياسية العربية المعارضة الراهنة تمثل مرحلة، بينما جوهر الثورات
العربية شبابي، ويمثل جيلاً جديداً ويحمل روحاً نقدية لمفهوم الدولة
والسلطة كما تنشقتها الأجيال العربية الرسمية. إن فكرة مدنية الدولة
وحياديتها تجاه المجتمع في ظل رفض واضح للاستبداد السياسي والاستبداد
الديني والطائفي تمثل احد اهم روافد الثورات العربية بقيادة التجربة
المصرية. 


هناك تغير كبير في مصر تجاه الاسلام السياسي (على رغم تنوع مواقفه)
وتجاه مظاهر التدين المبالغ بها، وسيزداد هذا الامر حدة إن وقعت مواجهات
وخسائر، لكن تيار «الاخوان» سيبقى تياراً فاعلاً في الحياة السياسية
المصرية، وسيكون لزاماً عليه القيام بمراجعات شاملة للوضع السياسي والفكري
الذي جعله يفقد نسبة كبيرة من الحضن الشعبي الذي قدم له الحماية والدعم
والقوة على مدى سنوات وعقود. فالتجربة خير معلم للشعوب وللتيارات وللقوى
السياسية كما وللأنظمة والسلطات الحاكمة. 


إن تحقيق أماني المصريين سيتطلب العودة ثانية الى ألف باء المرحلة
الانتقالية التي تتضمن انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة وتآلفاً وطنياً
ودستوراً ينسج بإجماع القوى السياسية وتساهم في كتابته كل الاطراف الرئيسة.
ثورة مصر كانت ولا تزال ثورة شباب، لهذا يجب ان تترجم هذه الثورة عند
مأسستها أماني الشباب ويجب أن تسمو الى الروح التي أنتجت شجاعتهم وحركت
تضحياتهم. 
  
  


* استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت