في الأسطورة القديمة فإن “يولسيس” الذي شغف بالإبحار والتجوال، كان يهرب دائماً إلى المكان الذي يستطيع أن يغرز فيه قدميه، ويقول، هذا ترابي، وحين كان في أمسّ الحاجة إلى الراحة من عناء البحر ومشقات السفر خيرته الفاتنة “كاليسو” بالبقاء في جزيرة الخلود حيث تقيم، خالداً كالآلهة، وبين العودة بشراً فانياً على أرضه التي انطلق منها أول مرة، فاختار العودة إلى أرضه رافضاً الخلود .
ثمة أسطورة أخرى، حية من لحم ودم ودموع، هي أسطورة الشعب الفلسطيني الذي لم يبحر على طريقة “يولسيس” بإرادته، إنما اقتلع من “أرض رباها باليدين”، ليفرض عليه أن يهيم في أراضي الدنيا، ولكنه في واحدة من مآثر العصر برهن على تمسكه بأرضه، فجعل من حجارتها سلاح مقاومة للغاصب في سابقة لم يعرف لها التاريخ، فوهب الحجر السر والسحر والقوة وعبّأه بالنشيد .
بالرغم من هول المأساة الفلسطينية وتهجير الجزء الأكبر من الفلسطينيين عن أراضيهم، فقد اجترح هذا الشعب ملاحم عدة: ملحمة التمسك بالأرض والبقاء عليها رغم عسف المحتل، سواء كان ذلك في أراضي 1948 أو ،1967 أو في التصميم على العودة والنضال في سبيلها لمن رحلوا عن أرضهم، وفي الإبقاء على قضيتهم حاضرة ومؤرقة للضمير الإنساني طوال عقود، وفي هذا انخرطت أجيال ممن ولدوا في الشتات ولم يروا من فلسطين حتى شبراً، ثم هناك ملحمة الإبداع الفلسطيني في الأدب والشعر والفكر الذي قدم للعرب وللعالم قامات كبرى لن تنسى .
هل يمكن تخيل خريطة الرواية العربية الحديثة من دون “سداسية الأيام الستة” و”الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” لإميل حبيبي، أو من دون “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني، أو تصور المنجز الشعري العربي الحديث من دون قصائد أبي سلمى وفدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم؟ أو هل يستقيم الحديث عن الفكر العربي الراهن من دون الوقوف على “استشراق” إدوارد سعيد و”البنية البطركية” لهشام شرابي؟
ليست مجرد بصمة هي ما تركه ويتركه المبدعون الفلسطينيون في المنجز الإبداعي العربي . إن مساهماتهم تعد وتداً أساسياً من أوتاد خيمة هذا الإبداع، من دونه لا تستقيم، وهذه مجرد تداعيات خطرت في البال من وحي تألق الموهبة الغنائية الفلسطينية الشابة والمبهرة محمد عساف في برنامج “آراب أيدول” وتؤكد موهبته، من جديد، أن الشعب الفلسطيني، رغم المحنة، متمسك بحب الحياة .