لعل التاريخ الحديث في منطقة الشرق الأوسط يعيد نفسه في كثير من الأحداث
التي تحدث في مختلف بلدان المنطقة. فلا فرق بين بلد كبير وبلد صغير
والتشابه يكمن في تبني العقلية الأمنية في حل الأمور بدلا من الحلول
الدبلوماسية وقنوات الاستماع للآخر، وبالتالي فان الفكر السلطوي هو ما يطغى
في بلدان لا تكترث بحرية الإنسان وحقوقه. وهذا تماما ما حدث في البحرين
وتونس ومصر وليبيا وسورية واليوم يحدث في تركيا.
إن حراك الإنسان
الذي غزا الشوارع والميادين من «تقسيم» و «اللؤلؤة» وصولاً إلى «التحرير» و
«شارع الحبيب بورقيبة»، ما هو إلا حراك إنساني أممي انطلق مع مطلع العام
2011، عندما بدأت ملامح مرحلة الربيع العربي تتشكل في إطار لا يخرج من
مفهوم حرية وكرامة الإنسان مهما كان معتقده وأيديولوجيته وعرقه. وهذه هي
التعددية، وهذه هي أيضا الديمقراطية التي لا تقهر هذا الإنسان لمجرد
الاختلاف في العقيدة والمذهب والأيديولوجية والرأي والعرق.
وضرب كل
ذلك بعرض الحائط معناه أن هناك هلاكا سلطويا يفرض نفسه ليقطع أوصال ما جاء
ذكره – بمعنى اخر – تهديدا لاستمرار قوة ونفوذ مجموعات أو أفراد، فعشق
السلطة لا يقاوم والتاريخ كفيل بقراءة الكثير من التجارب والنماذج التي مرت
بها شعوب المنطقة التي مازالت تعيش صراعا بين الفكر السلطوي والفكر
التعددي الحر.
وحراك الشارع التركي في مدنه المختلفة وعلى رأسها
ميدان تقسيم باسطنبول قد يرسم للمنطقة مفهوما جديدا لقمع الحريات في ظل
استمرار الفكر السلطوي.
وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز» فقد رأت الصحيفة
في حراك الشارع التركي مؤشرا قويا لصراع بين التعددية والسلطوية اذ قالت
انه «احتجاج وتمرد صريح ضد الديمقراطية نفسها»، وأضافت الصحيفة «هو التخوف
من هلاك تركي منتظر والتسلط الأكبر في مفاصل السلطة بصورة تعيد إلى أذهان
الأتراك عصور الدولة العثمانية وسلاطينها وهو أمر يهدد ما قامت عليه الدولة
القومية التركية الحديثة على يد مؤسسها كمال أتاتورك».
وما حدث في
أولى ساعات الصباح في ميدان «تقسيم» باسطنبول في 11 يونيو/ حزيران 2013 من
قمع ضد المتظاهرين العزل الذي نصبوا خياما في الميدان وعلقوا عليها صورا
لرموز من تركيا مثل كمال أتاتورك والشاعر التركي ناظم حكمت وأخرى للمناضل
الأرجنتيني تشي غيفارا والإفريقي نيلسون مانديلا والهندي غاندي كانت جميعها
رسالة واضحة لحكومة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان بأنهم لن يتركوا ارض
الميدان إلا بعد الاستماع لمطالبهم التي أثار شرارتها نشطاء البيئة
واستخدام القوة المفرطة من قبل عناصر شرطة مكافحة الشغب التركية.
غير
أن الحكومة التركية اتهمت هؤلاء النشطاء والمتظاهرين – بحسب التقارير
الاعلامية – التي لم تكف عن نقل ضرب «تقسيم» حتى لحظة كتابة هذا المقال
بأنهم لصوص ومخربون، ومعادون للديمقراطية، يخزنون الأسلحة داخل خيامهم
وغيرها من الأوصاف.
لكن كما يبدو من المتابعة، فإن هناك طريقة عربية
في الحبكة الدائرة في الحراك التركي، وخصوصا أن المهلة التي أعطيت
للمعتصمين داخل المنطقة شبيهة بممارسات حصلت في بلدان الربيع العربي.
إن
مشاهدة الصور في ميدان «تقسيم» التي تناقلتها بغزارة وكالات الأنباء أمس
هي إشارة واضحة إلى التقلبات السياسية التي بدأت تعصف داخل تركيا التي كان
يضرب بها المثل على مستوى بلدان المنطقة. إشارات قد تدفع الحكومة إلى تبني
سياسة فرق تسد، وهي بدأتها بالفعل في مدن خارج اسطنبول لتشغل الناس بقضايا
أخرى وتستفرد هي بسلطتها.
وبلاشك فإن ذلك سيؤدي إلى تضاؤل احتمالات
نشأة التعددية السياسية والوقوع في الصيغة الشمولية التي يهيمن فيها حزب
واحد على مقاليد الدولة وبين الصيغة التعددية التي تسمح لتيارين متعارضين
دون حدوث أي تضارب ثقافي أو أيديولوجي. وهو ما يعني أن تركيا قد تتحول إلى
نموذج للإسلاميين (الاردوغانيين) الموجودين داخل السلطة في القضاء على
عناصر المعارضة والنقابات العمالية والمهنية (حتى هذه اللحظة من كتابة
المقال تم اعتقال 70 محاميا منذ أن تم اقتحام ميدان تقسيم) وتدشين حكم
شمولي.
هذا الأمر انتشر حاليا في مصر مع حكم «الإخوان المسلمين» وهو
ما قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة ومصادمات منتظرة في بلدان المنطقة بينما
سيؤثر على شكل وصورة الديمقراطية في بلد مثل تركيا التي لطالما كانت مضربا
للمثل في البلدان العربية ولكنه قد يتحول الى هلاك منتظر ضد الديمقراطية.