ما الذي يجعل واعظاً يعلم في سريرته، أن أمراً له حكمٌ لازم، إلا إنه
يخالف اللازم بالضروري حسب الحالة والزمان والمكان، فتراه يطيل الشرح،
ويؤوِّل القول، ليصل إلى مبتغىً، ييسر على الحاكم، إتيان مظلمة. ولا يكتفي
بذلك، بل تراه يخالف اللازم بكف اليد عن استلام عطية من الحاكم لقاء
التيسير، فيضطره حاله إلى الإسفاف أكثر، ليريح ضميراً ما زال نابضاً، ليصل
إلى حالةٍ من الجمود الضميري، وقد يسهره أمر كهذا ليالٍ، وهو في وجل وخوف
من الله ومن الحاكم، ثم يأمن إلى إمهال الله له، وينسى أن الله لا يُهمل،
ويخشى تعجيل الحاكم له بالضر، إن أفتى بما لا يسره، أو امتنع، ويخشي الحاكم
في ردّ عطاياه، وهكذا يصطف في طابور وعاظ السلاطين، امتثالاً لمخرجٍ في
تشطير قولٍ «… ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة…».
فالمؤمن مَن
أمِن الناس شره، في لسانه وقلبه ويده، وانشغل بالشهادة والصلاة والصيام
والزكاة وحج البيت ما استطاع ذلك سبيلاً، فهل وعاظ السلاطين، على الرغم من
إتيانهم كل ذلك، يسلم من شرهم المؤمن؟
ومثل ما هناك من وعاظ
للسلاطين، هناك وعاظٌ للعامة من الناس، إلا إنهم أدنى منزلةً في العلم
والموعظة، هؤلاء يستنسخون فتاوي الأولين، ويمطون لحافها إلى ما ليس لها به
علاقة، ليعمّموا سوء القول وينزلوه أدنى سفاسفه، مستغلين ثقة العامة بهم،
في بساطتهم وضيق أفق معرفتهم.
وعلى الرغم من أن جميع طوائف المسلمين،
يؤتون أركان الإسلام الخمسة، واجتهاداتهم مهما اختلفت مخرجاتها، في ممارسة
عبادة الله الواحد الأحد، والتقرب إليه وتقواه بما اطمأنت له أنفسهم في
تحقيق ذلك، وهم أيضاً ممارسون لأصل العبادات الأساسية، إلا أن اجتهاداتهم
تتمايز عن بعضها البعض في التفاصيل الصغيرة من الممارسات العبادية، التي لا
تُخرِج أية طائفة منهم من ملة الإسلام، لذا ترى الراسخين في العلم من غير
وعاظ السلاطين، لا يُكفِّر بعضهم بعضاً، ولكن أولئك الوعاظ وجهالة القوم
ومتلبّسي عباءة الدين، يقتاتون على الحرابة فيما بين طوائفهم، ليتبوأوا
مكانة على المنابر، ومن خلالها يتنافسون على جمع أموال الزكاة والصدقات، في
الميل منحى الحياة الدنيا على الآخرة.
والأسوأ من كل ذلك، أولئك
الباحثون في الكتب الصفراء التي مَحَقَها التاريخ، عن مخارج لفتاويهم التي
تحض على الطائفية، وليس توحيد طوائف المسلمين، فما بالك بالبشر معتنقي
الأديان الأخرى، لتفتيت مجتمعات دولهم وأوطانهم، فيتسمّوا هم بأسماء، فرقة
الفاروق، وفرقة الصدّيق، والفاروق والصدّيق رضي الله عنهما منهم براء.
كل
هؤلاء، أشداء على المسلمين المختلفين، وعلى من لا يعادي الأديان عامة،
رحماء فيما بين غيهم الطائفي، مستنسخين الوقائع التاريخية في الصراع على
الخلافة الإسلامية من بعد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، مستشهدين بأسوأ
الأقوال، لا بأحسنها، نفياً لمعنى ومسوق الآية الكريمة «… الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه»، فماذا دهى المسلمين لينزعوا للفرقة؟
المتتبع
لتاريخ الحركات الإسلامية، سواءً من داخلها أو خارجها، يجد أن العامل
المشترك فيما بينها، على رغم الاختلافات والفرقة، هو تغيير الدين بالولاية
السياسية، فحقيقة الفرقة والخلافات الإسلامية، ليس لها علاقة بالدين، بقدر
ما لها علاقة بالصراعات السياسية، أفليس من شهد أن لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله، من الأعاجم الداخلين في الإسلام، أمام ذاك الفقيه
الداعية، كافياً لإعلانه مسلماً، ويحق له ما حق «للمؤلفة قلوبهم» من
العطايا، فما بال من أتى بأركان الإسلام الخمسة، يتم إخراجه من الإسلام.
نعم،
إنها الولاية السياسية، هي الدافع والمحرك لكل القُوّاد الجهاديين
الإسلاميين، الذين يتلاعبون بعقول العامة من المسلمين، بتخويفهم من الفرق
الأخرى، ويزجّون بهم في أتون الاحتراب الطائفي داخل الدين الواحد، بدعوى أن
الدين في خطر. لذا وجب عليهم الجهاد، وطلب الشهادة، فمثواهم جنة الخلد
ولهم في الآخرة حور العين. فترى التطأفن فقط داخل بلاد المسلمين، إلى أن
يصل فريق منهم إلى السلطة السياسية، فينسخ ما عاب به الحاكم السابق، ولا
يتورع ذاك الساعي من الجهاديين الإسلاميين، إلى الولاية السياسية، من
الاستنجاد بمن يصنفهم كفاراً لمده بالسلاح والمال الكافر، لتحقيق غاية يدعي
أنها إسلامية، ولا يرتبط أولئك بوطن ومواطنين، ولا حتى بإنسان، ما لم يكن
منصاعاً خادماً لأهوائهم في توليهم بأشخاصهم الولاية السياسية، هذه الولاية
التي يرتأونها في حالتين، إما التفرد بها، وإما التمييز من تحت عباءة
السلاطين، إلى حين الانقضاض عليهم أي السلاطين وعلى الولاية من بعدهم.
كما
أنهم لا وطن لهم إلا الولاية السياسية، في أي أرض من أوطان المسلمين،
فتراهم في البحرين وفي سورية والعراق وليبيا ومصر، وفي كل بلاد المسلمين،
سلاحهم النفسي هو التكفير، وسلاحهم الثقافي والمعرفي هو الطائفية، وسلاحهم
المادي هو جهادهم الإسلامي المدعوم بالمال والسلاح الكافرين، فما أبعد
هؤلاء عن المسجد الأقصى، بقدس فلسطين المغتصبة من قبل اليهود، وهو أولى
القبلتين وثاني الحرمين، حتى بقول كلمة حق.