الاستبداد من قماشة واحدة . نعم، قد تتعدد ألوان هذه القماشة، لكنها تظل واحدة . الرائي المتبصر في الأمور بوسعه أن يلحظ ذلك من مجريات الأحداث الدائرة حوله . وعلى سبيل المثال، فإن بين إيران التي يحكمها الإسلاميون الشيعة وتركيا التي يحكمها الإسلاميون السنة ثمة تنافس خفي ومعلن، وصراع على مواقع نفوذ في الإقليم المحيط بهما، وهو إقليم واحد، لكن حين يتصل الأمر بالمسألة الديمقراطية فلا فرق على الإطلاق في جوهر الموقف منها بينهما، وإن كان من فرق فهو في اللبوس الخارجي، لا في الجوهر .
ثمة انتخابات رئاسية دورية تجرى في طهران، ولكن من يحق له التأهل لهذه الانتخابات عليه أن يعبر برزخ هيئة صيانة الدستور المؤتمرة بأمر المرشد الأعلى، ومن لا يرضى عنه المرشد ليس بوسعه ترشيح نفسه، حتى لو كان هذا الشخص هاشمي رفسنجاني نفسه، رئيس الجمهورية الأسبق الذي كان أحد مرشحين اثنين لوراثة الخميني في موقع المرشد، وكان بإمكانه أن يكونه، لولا أنه، لحكمة أو لغاية ما، تنازل عنه طوعاً لخامنئي .
لا يختلف المشهد التركي كثيراً، فما الفرق بين ما قاله ديكتاتور مثل معمر القذافي عن خصومه بأنهم جرذان وحثالات ومتعاطين لحبوب الهلوسة، وبين تلك التهم التي يسوقها رجب أردوغان ضد المحتجين في ساحة “تقسيم” واصفاً إياهم بالرعاع وبشاربي الخمور، أو حتى تلك التهم التي يطلقها الإخوان المسلمون في مصر ضد خصومهم، فكيف لقوى تقول إنها وصلت إلى الحكم بالآليات الديمقراطية، أن تنكر على معارضيها ممارسة أساليب الاحتجاج التي تضمنها هذه الآليات .
تجارب القوى الإسلاموية في الحكم، في إيران وتركيا والسودان، تظهر أنهم النسخة الأسوأ والأكثر تخلفاً من نسخ الاستبداد التي عرفها العالم العربي والإسلامي، فهي لا تكتفي بالاستئثار بالحقل السياسي وحده، وإنما ترنو للهيمنة على المجتمع كاملاً ومصادرة ما فيه من أوجه تطور اجتماعي وثقافي، ومن تنوع في أنماط المعيش، ومن حريات مدنية وشخصية صانها الوعي الذي بلغته هذه المجتمعات نفسها .
لتطور الديمقراطية يلزم توفر الحامل الاجتماعي والسياسي لها، والقوى الإسلاموية، شأن نظيرات سابقة لها، قادمة من منابت غير ديمقراطية، ولم يُعرف عنها، في ما سبق، انفتاحها على الأفكار الأخرى، بل إنها في بُنيتها الفكرية والسياسية تحمل ميولاً إقصائية واستحواذية، تؤكد أن قماشة الاستبداد واحدة، وإن تعددت فيها الألوان .