بيننا وبين 15 مايو/ أيار الأصلي، 15 مايو/ أيار ،1948 ستة عقود ونصف . ما أكثر ما تبدلت فلسطين، ما أكثر ما تبدل العالم العربي خلال هذا المدى، ما أكثر ما تبدلنا نحن . من سيكتب التاريخ سيروي هذه التبدلات . سيقول كم عصفت بنا التغييرات، كم أضعنا وكم ضُيعنا . كيف تقلص حجم الأراضي التي كنا نمشي في مناكبها أحراراً أو شبه أحرار، حتى لم نعد واثقين بأن أقدامنا ثابتة على ما تبقى من أراضٍ نقف عليها .
ومن سيروي التاريخ سيكتب أن هذه التبدلات جرت لكن كان هناك دائماً من رفض رفع الراية البيضاء . هناك من قاتل حتى الرمق الأخير، حتى آخر قطرة دم من أجل ألا تؤول الأمور إلى ما آلت إليه . كم عدد مقابر الشهداء في ساحة هذا الوطن العربي، كم عدد الشهداء الذين ضمتهم هذه المقابر؟ كم عدد الشموع التي تشع في ليل العرب المدلهم؟ إنها كثيرة وكثيرة جداً حتى لو كادت الرياح العاتية أن تطفئها .
ستة عقود ونصف بيننا وبين 15 مايو/ أيار ،1948 الصفحات البيضاء وسط الكتاب الأسود الذي على صفحاته دونت وقائع هذه الحقبة صفحات كثيرة، لأنه في أسوأ الأوقات، في الأزمنة التي اندفع فيها قطار الخيانة مسرعاً مجتاحاً ما أمامه من “عوائق” ثمة من وقف معيقاً حتى ولو كان بصدرٍ عارٍ .
كانت الأمهات في فلسطين وفي خارج فلسطين يدفعن بأجيال جديدة لم تر من فلسطين إلا الجزء، وبعضها يعرف فلسطين بالاسم فقط، إلى ساحة الشرف، وحين عز السلاح حولوا حجارة الوطن إلى سلاحٍ موجع في مأثرة بطولية لم يبتكرها شعب من قبل ولا من بعد . . وفي امتحان الإرادة ظل ضمير الأمة يقظاً لأن الراية لم تسقط أبداً، وليس لها أن تسقط لأن القضية العادلة تبقى حية دائماً .
ستة عقود ونصف مدى زمني طويل . مدى من الضياع والفقدان والخيانة، ولكن التاريخ لم يكن يوماً لدى أي أمة تاريخ انتصارات فحسب . الأجدى هو التبصر في عبر التاريخ، الذي هو ليس معطى نهائياً وإنما هو سيرورة دائمة، وما أكثر ما حولت إرادة الأمم الهزائم إلى انتصارات . صحيح أن الانتصارات اللفظية لا تصنع انتصارات فعلية، ولكن هذا أمر والانطلاق من بؤس الحال الراهن لتكريس الهزيمة وتعميم مداها أمر آخر .