يُحيي العالم، كلّ العالم، عيد العمّال، ولا يكاد يتخلّف بلد عن الاحتفاء بهذه المناسبة، بل لربّما هو العيد الوحيد الذي يوحّد شعوب الأرض قاطبة على مناسبة سواء.
إنّ الأوّل من مايو/ أيار أصبح رمزاً لوحدة العمّال، ويوماً يشعرون فيه بانتصاراتهم، ثمّ تطوّر الأمر فصار يوم عطلة رسميّة مدفوع الأجر.
وسواء كان الاحتفال به إحياءً لذكرى المجزرة التي ارتكبتها الشرطة الأميركية إبّان الملحمة التاريخية والنضالية لانتفاضة عمّال شيكاغو عام 1886، أو تتويجاً لنضالات العمّال التي دعت إليها الأمميّة الأولى في جنيف عام 1866 من أجل يوم عمل بمقدار 8 ساعات فقط، فإنّ معظم المنظمات العماليّة في العالم لا تترك هذه الفرصة تمرّ دون إحياء المناسبة بما تستحقّه من الفعاليات والمهرجانات وغير ذلك من الأنشطة التي لم تتخلّف عنها العديد من المؤسسات والمصانع والإدارات التي تحظى بإدارة تقدّر دور العمال فيها. وهو ما يؤكد كلمة لـ» أوجست سبايس»، أحد المحكوم عليهم بالإعدام في انتفاضة شيكاغو، أطلقها قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه حيث قال: «سيأتي اليوم الذي يصبح فيه صمتنا في القبور أعلى من أصواتنا».
وبالفعل فقد أصبح الأوّل من مايو في كل عام بمثابة الصرخة المدوية لعمّال العالم. وفي عالمنا العربي، أخذت الحركة العمّالية منذ نشأتها شكلاً نضالياً مضاعفاً؛ فقد امتزج النضال النقابي بالنضال السياسيّ في عهد الاستعمار في أكثر من بلد عربيّ: فعلى سبيل المثال كان للطبقة العاملة دور كبير جداً في انتفاضة عام 1931 في العراق، حيث انتفض الشعب العراقي بقيادات عمّالية مطالباً بإلغاء معاهدة أو اتفاقية 1930 بين العراق وبريطانيا. وفي تونس، مثلاً آخر، لعبت الحركة النقابية على أيدي مؤسسيها، إبّان الاستعمار، الدور الأبرز في النضال ضدّ المستعمر الفرنسي، ولا تزال نضالات الزعيم الوطني السياسي والنقابي فرحات حشاد إحدى العلامات المضيئة في تاريخ النضال العماليّ في تونس قبل الاستقلال.
وهكذا كان التلازم بين النقابيّ والسياسيّ سمةً تميّز الحركة العمالية العربية بحكم الاستغلال الاستعماري والرأسمالي ذي الجذور الاستعمارية في ذلك الزمن، حيث كانت معظم الشركات والمصانع الكبرى تحت وصاية المستعمر إدارةً وتصرفاً.
ومهما كان الأمر تظل الشريحة العمّالية، بانية الحضارة، الفئة الأوسع انتشاراً في العالم. إنها بمثابة الجنديّ المجهول الذي يعمل بصمتٍ دون كللٍ أو مللٍ ليشيد أركان الوطن. ولمّا كان الأمر كذلك، فإنّه يمكن أن نعتبر الاحتفاء بعيد العمّال احتفاءً بقيمة العمل والبناء والعيش الكريم في الوقت نفسه، دونما إذلال للنفس البشريّة، ولمّا كان العمّال هم الفئة الأكثر عدداً في المجتمعات، فإنّ قيمة العمل التي يجسدونها تغدو الأوسع انتشاراً والأكثر رفعةً وإجلالاً بين القيم الأخرى، بل ربما هي القيمة الإنسانية الوحيدة المشتركة التي لا يختلف اثنان في أهميّتها وأولويّتها.
لكن، وللأسف، فإن هذا العيد وهذه العطلة السنوية الرسمية مدفوعة الأجر التي اكتسبتها الطبقة الشغيلة، نتيجة نضالاتها، يتمتّع بها أكثر ما يتمتّعون، عموم العاملين بالفكر قبل الساعد، فالموظّفون هم المستمتعون بهذه المناسبة لأنّ عدداً كبيراً من العمّال في العالم سيبقون يوم 1 مايو مرابطين في أماكن عملهم، إذ أنّ أعمالهم سببٌ لراحة الآخرين: على سبيل المثال عمّال المطابخ والمطاعم يجهزون الأكلات ويقدّمونها على طبق الراحة ليستمتع بها الآخرون في إجازتهم، وهؤلاء المنظفون والحمّالون يعملون ليل نهار حتى يوفّروا أسباب السلامة والصحة والراحة للمستمتعين بإجازتهم. وكذلك الباعة القارون والمتجوّلون و… أمّا عن العمال الذين هم في المصانع، يوم الأول من مايو، والمجبرين على العمل فحدّث ولا حرج! فأرباب العمل وبدعوى تجهيز طلبيّات مستعجلة، يضطرّونهم إلى العمل، ومن يتلكّأ من العمّال فمصيره معلوم نهاية الشهر.
إذن لا يزال الاحتفال بهذا اليوم في العالم في حاجةٍ إلى عنايةٍ أكبر ونظرٍ ثاقبٍ حتى يقع التكريم الفعليّ للعمّال، والاحتفاء الحقيقي بقيمة العمل؛ إذْ كيف نحتفي به وملايين الأطفال في العالم يُحرمون عنوةً من المدارس ويزجّ بهم، رغم صغر سنهم، في مصانع الإنتاج بلا رحمةٍ من أجل فوائد الربح لأرباب العمل؟ كيف نحتفي به ولا تزال في عقول أبنائنا، خصوصاً نحن العالم العربي، تعشش فكرة دونية تستنقص من قيمة العمل باليد ولا ترى جاهاً ولا وجاهةً إلا في العمل على كرسي دوار ومكتب وقلم بين الأصابع.
إن مجتمع الغد يحتاج إلى مهارات العمل اليدوي والابتكار والإنتاج، ووسيلته في ذلك أبناء اليوم، فإذا لم نربّ فيهم توقير العامل واحترام العمل مهما كان نوعه، فكيف نطلب منهم غداً أفضل؟