|
|
|
بين كتبه وكتابته اختار محمد جابر صباح أن يخوض معركته هذه المرة ببسالة، هذه المعركة لا يوجد فيها رفيق يشاركه الأفكار، ولن تحتاج بالتأكيد إلى طباعة منشورات ولن تقود إلى تحقيقات أو معتقل، معركة لا يذهب الإنسان أليها بل تأتيه من دون حسابات، هي معركة المرض. ماذا فعلت بعد ترك المدرسة؟ – حصلت على وظيفة في دائرة الجمارك مقابل 60 روبية أي ما يعادل 6 دنانير اليوم، بالعام نفسه حدثت نكبة العرب باحتلال فلسطين من قبل الكيان الصهيوني العام 1948 ما ألهب مشاعر الناس وخرجت مظاهرات تندد بهذا الاحتلال،اتذكر وقتها حدث تجمهر لطلاب قرب مبنى البريد في المحرق، كنت أراقب هذه المشهد وأتمنى بيني وبين نفسي لو أنني لا ازال طالبا لكي أخرج معهم ضد احتلال فلسطين. بماذا عملت في البحرين؟ – لم أحصل على أي وظيفة وبقيت عاطلا لمدة 7 أشهر إذ اضطررت للعودة إلى السعودية وتوليت عملا جديدا هناك في مستودعات الأسلحة التابعة للجيش الأميركي في مدينة “الظهران”.
– مع عودتي إلى السعودية هذه المرة جاءني حنين كبير لإكمال الدراسة، كنت امتلك رغبة بأن أصبح صحافيا وشاءت الصدف أن التقي المرحوم محمود المردي الذي كان وقتها يعمل في إدارة بنك القاهرة في مدينة “الخبر” أخبرته بأوضاعي وحنيني للدراسة فاقترح أن يرتب لي الدراسة في القاهرة بالمراسلة فوافقته على الفور. للمرة الثانية تقرر الانقطاع عن الدراسة على رغم الرغبة الكبيرة فيها! – نعم ولكن في هذه الفترة بدأت أقرأ الكثير من الكتب، كنت اغتنم أي ليلة قمرية في السعودية واخذ أي كتاب واذهب للقراءة فوق الكثبان الرملية. ربما كنت أحاول أن أعوض تركي الدراسة بهذا الجانب. أي الكتب كنت تقرأ؟ – مؤلفات يوسف السباعي والكثير من القصص. بين الحين والآخر كنت أذهب إلى المرحوم محمود المردي واحدثه عن الكتب التي اقرأها ويحثني على قراءة المزيد، وقتها بدأت أحاول أن اكتب بعض المقالات، وفي العام 1954 كتبت أول مقال نشر لي وكان عنوانه “بكم اشتريت زوجتك”، جاءتني فكرة هذا المقال من نقاش دار بيني وبين أحد الضباط الأميركيين العاملين في “الظهران” عندما قال لي انتم العرب تدفعون للنساء الكثير من المال لكي تتزوجونهن. وأوضحت له الأمر بأننا ندفع المال على سبيل العادات وليس بغية شراء المرأة. كانت هذه تجربتي الأولى مع كتابة المقال واكتفيت بها بتلك الفترة ولكنني تمسكت بالقراءة أكثر.
– “بالتأكيد، كانت فترة تأسيس هيئة الاتحاد الوطني قد بدأت، وبدأت أقوم بجمع المال لدعم الهيئة من الشباب البحريني الذي يعمل في السعودية وإرسالها عن طريق شخص اسمه “علي الشاعر” لكي يقوم بتوصيلها إلى أمين الصندوق لدى هيئة الاتحاد الوطني”. كنت تجمع المال لدعم الهيئة، هل كنت وقتها تنتمي لأي تشكيل سياسي ام ان الامر لا يتعدى التعاطف مع الهيئة؟ – لم يكن أكثر من تعاطف مع الهيئة التي كانت بنظري تقود عملا سياسيا كبيرا في البحرين ضد الاستعمار، وعندما ضربت الهيئة في العام 1956 الذي تزامن مع العدوان الثلاثي على مصر باتت لدي مخاوف من أن يكون امري قد انكشف للسلطة بخصوص جمع الأموال للهيئة وان يتم اعتقالي كما تم اعتقال الكثيرين. هل عدت إلى البحرين؟ – نعم، ولكن بعد 11 شهرا من ضرب الهيئة وكان لدي مبلغ بسيط فقمت بعمل محل بقالة صغير لكي انتفع منه. كيف بدت الأوضاع بعد ضرب الهيئة؟ ماذا كان توجه هذه الحركة؟ – كانت مجموعة وطنية من الشباب البحريني تهدف إلى محاربة الاستعمار البريطاني في البلاد. بدأنا بإصدار المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية إذ نقوم بتوزيع النسخ الإنجليزية على سكن الجيش الأميركي في المحرق، أما النسخ العربية فتوزع على مختلف مناطق البحرين، في هذه الفترة ذهبت إلى السعودية بغرض تجميع الشباب البحريني الذي يعمل هناك للانضمام إلى الحركة، وبعد عودتي من السعودية فاجأني حمد بن عجلان بأنهم قاموا بالانضمام إلى جماعة أخرى تضم شخصين كانا قد عادا للتو من الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت وهما عبدالرحمن كمال واحمد حميدان، كانا يحملان أفكار حركة القوميين العرب وعليه تم تغيير اسم الحركة من الشباب العربي إلى حركة القوميين العرب، يمكننا القول إن حركة القوميين العرب في البحرين لم تأت من فراغ فلقد وجدت أمامها مجموعة من الشباب المتحمس المستعد للعمل الوطني.
– بلاشك، التحمس للفكر الناصري وتأجج المشاعر للفكر القومي أثر بشكل كبير. كنت في البداية غير واثق من أن فكرة انضمامنا إلى حركة القوميين قرار صائب وناقشت حمد بن عجلان بهذا الأمر فقال لي إن عبدالرحمن كمال رجل شريف ونزيه ولا داعي للتخوف. هل استقطبت أحدا من الحركة إلى جانبك في الانشقاق، وهل اتخذتم أي توجه مختلف عن القوميين العرب؟ – نعم كان هناك مجموعة من الشباب الذين أيدوني وقمنا بتشكيل مجموعة جديدة أطلقنا عليها اسم “حركة الثوريين العرب” لكنها بقيت حركة ضمن إطار فكرة القوميين العرب باستثناء الاعتراض على قيادة الكويت. يضيف صباح: “قيادة حوادث مارس/آذار العام 1965 كانت تسير على هذا النحو من قبل ثلاث فئات قومية وهي حركة القوميين العرب الأم وكان يقود الشارع فيها أحمد الشملان وحركة الثوريين العرب المنشقة بقيادتي والناصريين بقيادة المرحوم محمد بونفور، شكلنا تجمعا فيما بيننا أسميناه “اتحاد الشباب القوميين العرب” والى جانبنا كانت جبهة التحرير تلعب دورا رئيسيا بقيادة محمد السيد، في أثناء الحوادث تم اعتقال رفيقي علي ربيعه. في فترة حوادث مارس/آذار 1965 كان لك دور بارز في عمل المتفجرات التي استخدمت وقتها؟ – نعم كنت أصنع المتفجرات التي يمكن تسميتها بمتفجرات بدائية أو لنقل صوتية، وكنت أقوم بتوقيتها بواسطة ساعة يد، ولكن حصلنا عن طريق جبهة التحرير على قنابل حقيقية يدوية، كان التعلم على استخدامها ليس بالأمر الصعب، فقمنا ببعض التفجيرات التي أحدثت ضجة في الجهاز الأمني من خلال استهداف رجال الأمن وقتها. بعد الحوادث شنت السلطات حملات اعتقالات واسعة هل اعتقلت في تلك الفترة؟ – اعتقلت لمدة سنة ونصف تنقلت خلالها بين القلعة وجدة وسجن بيت الدولة وكلها كانت اعتقالات بشكل انفرادي، في البداية سجنت في القلعة بزنزانة رقم “11” ثم نقلت إلى “جدة” ثم نقلوني إلى سجن “بيت الدولة” ومن ثم عادوا بي إلى سجن “جدة” ومن ثم نقلوني إلى سجن “القلعة” في زنزانة كنا نسميها “أم البول” هذه التسمية أطلقها المساجين عليها لان أرضيتها مقعرة بالوسط وتتسرب مياه المجاري من جدرانها الأربعة وأينما وضع السجين جسده لابد أن تلامسه مياه المجاري المتسربة. أتذكر انه عندما تم اعتقالي كنت ارتدي البدلة التي كنت ارتديها يوم زواجي الثاني في العام 1961 وطبعا اهترأت داخل السجن، بعد ثلاثة أشهر نقلت إلى زنزانة مجاورة لها كنا نسميها “المخزن” لأنها أصلا كانت مخزن للقرطاسيات والأدوات، في أحد الأيام كان المطر شديدا وبدأت المياه تتسرب إلى داخل الزنزانة فاختبأت بإحدى الخزائن التي تستخدم لحفظ القرطاسيات، فجاء الحرس ولم يرني فبدأ بالصراخ ظنا منه إنني هربت، فخرجت له لكي أطمئنه بأنني لم اهرب فقال لي بلهجته العربية الركيكة “موت في الميه”. اعتقد أن هذا اليوم كان أسوأ أيام اعتقالي بعد الانتفاضة. بعد ذلك نقلت إلى زنزانة في “الحوش” كان ممرا يطل على عدة زنزانات، تعطى للمساجين ساعة واحدة للراحة بالخارج، في هذه الأثناء تعرفت على سجين من جبهة التحرير يدعى أكبر دشتي الآن يحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء، بدأ يكلمني عن التحرير وعن الأفكار التي يؤمن بها واستطيع القول إنه فتح أمامي آفاقا جديدة بالنسبة لي جعلتني اشعر بالميول نحو جبهة التحرير. |
|
|
|
في الحلقة الماضية تحدث محمد جابر صباح عن نشأته في مدينة المحرق، وكيف التحق في طفولته بالمدرسة سرا عن والده، ومن ثم كيف قرر أن يتركها ويتجه إلى العمل بين البحرين والسعودية، وحدثنا عن بداية التشكل السياسي لديه عندما رأى المظاهرات الوطنية التي قام بها أهالي البحرين في عام النكبة 1948 ، وكيف عبر عن تعاطفه الشديد مع هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات من القرن الماضي من خلال تجميع الأموال من الشباب البحريني العامل في السعودية وإرسالها إلى صندوق الهيئة، وكيف بدأت لديه أفكار حول تشكيل حركة وطنية تخلف هيئة الاتحاد الوطني – بعد أن ضربت في العام 1956 – هو ورفيقه حمد بن عجلان وكيف جاء ميلاد “حركة الشباب العربي”. ماذا حدث بعد أن خرجت من المعتقل في منتصف العام 1966؟ – تم الإفراج عني في أبريل/نيسان من ذلك العام لكنني بقيت لعام آخر مراقبا بشكل مستمر، كانوا أحيانا يداهمون بيتي ويصادرون مكتبتي ، هذا إلى جانب استدعائي المتكرر من قبل ضابط انجليزي يدعى “شور” إلى أماكن مختلفة فأحيانا يتم استجوابي على ساحل البحر وأحيانا أخرى في سيارته وفي آخر مرة أتذكر انه طلب مني المجيء إلى أحد الفنادق في المنامة. ملاحقات أمنية حول ماذا كانت تدور الأسئلة في التحقيق؟ – كانوا يريدون معرفة ما إذا كان هناك عمل جديد نخطط للقيام به ضدهم. لقد كانوا يمتلكون اعترافات ضدنا. كيف حصلوا على هذه الاعترافات؟ – كانت قد تشكلت مجموعة تضم علي ربيعة ومحمد بونفور وانا لإجراء لقاءات مع احد العناصر الوطنية للقيام بعمل وطني موحد تحت أي مسمى سعيا لتوحيد القوى الوطنية، بقينا نجتمع لمدة 3 شهور لكن من دون نتيجة تذكر، بعد ذلك تم اعتقاله واعترف علينا بالأسماء، يبدو انه كان يريد أن يتخلص من الملاحقات الأمنية. كيف كنت تتولى شئون حياتك بعد الخروج من المعتقل؟ – عملت لمدة 11 شهرا بوزارة التربية والتعليم، وفي الوقت نفسه التحقت بالدراسة من المنزل حيث أتممت دراستي التي تعادل الثانوية، ومن ثم عملت مع سفريات القصيبي، وبعد ذلك بفترة قصيرة سافرت إلى الكويت ومنها إلى العراق ومن ثم إلى سورية والتقيت هناك عبدالعزيز الشملان وحسن الجشي وسافرت إلى لبنان والتقيت هناك أحد الأصدقاء الذي قدمني إلى الكاتب فواز طرابلسي إذ قدم إلي مجموعة من الكتب التي قام بتأليفها وترجمتها، اعتزازي بهذا اللقاء جعلني أطلق اسم فواز على أحد أبنائي فيما بعد. هل انضممت مباشرة إلى أية حركة وطنية بعد عودتك من بيروت؟ – لا… بل بقينا نحاول أن نشكل حركة وطنية جديدة فيما بيننا أنا وعلي ربيعة ومحمد بونفور ومجموعة أخرى فالتقينا بقاسم حداد، كنا نود أن يكون هناك عمل موحد من دون أن نتطلع إلى التسميات ومع الأيام اصبح هناك ما يعرف بالجبهة الشعبية. **قاسم حداد والإختلاف في إحدى الجلسات حدث خلاف ما بين قاسم حداد ومجموعتنا، كان وقتها حداد شابا صغيرا ومتحمسا وربما لم يتسن لنا جميعا تدارك الخلاف، انسحب فرد من مجموعتنا وتبعه علي ربيعة والباقون وتفاقم الخلاف إلى أن قررنا جميعا الانفصال، الحقيقة كانت هناك حالة من تشوش الأفكار والتخبط في القرارات. هل كنت قد أصبحت بتلك الفترة مع جبهة التحرير؟ – يمكن القول إنني منذ العام 1965 وحتى العام 1973 كنت أتحرك بين مختلف التشكيلات الوطنية الموجودة على الساحة، لكن جبهة التحرير كانت الأقرب إلي وقامت بتكليفي بالذهاب إلى الهند وزيارة مقر الحزب الشيوعي الهندي في مدينة بومباي حتى قبل أن أكون بصفة رسمية معها. وعندما تم تشكيل كتلة الشعب في داخل المجلس الوطني كنت بدأت اعمل مع هذا التكتل واصبحت مع جبهة التحرير بشكل رسمي. هل اعتقلت ايضا ؟ – نعم، ولكن في العام 1976 وعلي خلفية مقتل المرحوم عبدالله المدني أتذكر كان شهر نوفمبر/تشرين الثاني عندما جاء رجال الأمن إلى منزلي في ساعات الفجر واصطحبوني إلى “القلعة” وقابلني الضابط الانجليزي “هندرسون” لم يدم الاستجواب اكثر من خمس دقائق قال لي في النهاية “سنرسلك إلى سجن “جدة” ولديك أسبوع واحد للتفكير وإذا كان لديك استعداد لإعطاء معلومات عن جبهة التحرير ستعود إلى هنا وننهي الأمر” فقالت له من الآن ليس لدي أية معلومات عن الجبهة. فدخلت الاعتقال لمدة أربع سنوات. أين كان الاعتقال هذه المرة؟ – تنقلت إلى اكثر من سجن، في البداية في سجن “جدة” ومن ثم إلى “سافرة” إذ كان يتم وضع كل فرديين في حجر أشبه بالصناديق التي لا تتعدى مساحتها 2 متر مربع، في فترة النوم نتوسد أرجل بعضنا البعض. ماذا حدث بعد أن أطلق سراحك؟ – بقيت في البحرين وحاولت الحصول على وظيفة لكي اسدد التزاماتي المادية التي تراكمت بسبب الاعتقال لكن من دون فائدة، فقمت بتدبر أموري وفتحت محلا للخياطة. في العام 1986 تلقت جبهة التحرير ضربة قوية وصفت من قبل البعض بأنها ضربة اجتثاث للشيوعيين في البحرين، هل تم اعتقالك بهذه الفترة؟ – لم اعتقل لكن هذه الضربة كانت فعلا قاسية إذ تم اعتقال مجموعة من الجبهة، بعد ذلك بفترة قمت بتشكيل حركة للمطالبة بالدستور. كانت الاجتماعات تعقد في بيتي بحضور ما تبقى من أفراد الجبهة خارج المعتقل، كان الامر يحتاج تجميع القوى الوطنية المتواجدة على الساحة. استمرت الاجتماعات لمدة أربع سنوات، بعد ذلك اجتمعنا في بيت علي ربيعة واطلقنا العريضة النخبوية التي وقع عليها اكثر من 300 شخص بحضور الشيخ عبدالامير الجمري وعبدالوهاب حسين وعيسى الجودر. ومن جبهة التحرير أنا وعلي ربيعة واحمد الشملان، اما من الجبهة الشعبية فكان هناك سعيد عسبول وإبراهيم كمال الدين وعبدالله هاشم وعبدالله راشد المطيويع. وكان رد الحكومة على هذه العريضة تشكيل مجلس الشورى.
– بلا شك تحققت الكثير من الإنجازات وبفترة قصيرة، لكن ما زالت الكثير من الأمور التي نتطلع إلى تحقيقها وعلى رأسها التصدي للكثير من المشكلات التي يواجهها المواطن البحريني مثل قضية البطالة ، فلأكثر من 27 عاما ولا تزال هذه المشكلة قائمة ولكن إلى متى؟ هذا الملف من اكثر الملفات أهمية بالنسبة إلى البحريني وهي أيضا إحدى سلبيات الماضي التي ما زالت تلقي بظلالها على حاضرنا وهناك مشكلات كثيرة ناتجة عن الفساد الإداري في بعض المؤسسات ولم يتخذ شيء بشأن ذلك، أليست هذه مشكلات نواجهها يوميا؟ بعد كل هذا المشوار الطويل ما بين العمل الوطني والاعتقالات والآن العمل الوطني ضمن جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي بماذا احتفظ محمد جابر صباح من هذا المشوار؟ – لقد آمنت بمبدأ واحد وهو أحقية الناس في أن تتمتع بحقوقها، وكان قدرنا أن نكون في الواجهة للدفاع عن حقوق شعبنا، وليس من السهولة أن يتخلى الإنسان عن مبدأ حمله لسنوات طويلة. |