مع دخول الأزمة السورية عامها الثالث، لم يعد الحوار شأناً حاضراً في اهتمامات أطرافها الداخليين والخارجيين. السلطة تواصل ما يشبه الحوار مع الذات في ما تتخذه من إجراءات و«مسارات حوارية». وهي متهمة، وليس عن خطأ أو تحامل فقط، بأنها لم تحسن يوماً لغة الحوار، وخصوصاً إذا كان يعني تقديم بعض التنازلات وإدخال بعض التغييرات والتعديلات الجدية على مسار الحياة السياسية في سوريا. المعارضة، بدورها، وخصوصاً تلك المرتبطة بالخارج، سعت، وتستمر في ذلك، إلى إسقاط النظام «بكل رموزه»، آملة، حتى هذه اللحظة، أنّ يتكرر «النموذج الليبي» حين تدخلت قوات حلف الأطلسي مباشرة وحسمت المعركة الداخلية لمصلحة المعارضة الليبية، مقدمة مساهمة، حاسمة أيضاً، في عملية قصف، ومن ثم قتل العقيد معمر القذافي.
الدول الكبرى، بدورها، ومعها عدد كبير من الدول العربية (الخليجية خصوصاً)، تواصل التصرف انطلاقاً من حساباتها العامة، لا انطلاقاً من هاجس حقن الدماء ووقف الدمار في سوريا. معظم خصوم النظام السوري يجدون في إطالة أمد الأزمة هدفاً قائماً بذاته. هم مرتاحون تماماً إلى النتائج التي أفضت إليها المواجهات، لجهة إضعاف النظام السوري واستنزافه.
سوريا الآن، هي، في ظل التطورات الراهنة، رجل المنطقة المريض الذي فقد دوره، وبات، نتيجة عجزه عن حسم المعركة ونتيجة الخسائر الكبيرة التي أصابته، عبئاً على أصدقائه وحلفائه. وبهذا المعنى، إنّ استنزاف النظام السوري هو أيضاً استنزاف للحليف الإيراني في «الممانعة» ولحزب الله في لبنان. أما حركة «حماس»، فقد نأت بنفسها عن الصراع، منذ سنة تقريباً، لتقع، بنحو متصاعد، في أحضان المحور الآخر الحليف للولايات المتحدة والمنفذ، إلى حدّ بعيد، لسياساتها ولمصالحها ولمصالح حلفائها في المنطقة، وفي المقدمة منهم العدو الصهيونيّ.
وليس أن الحوار والحديث عنه والمبادرات بشأنه هو ما توقف تماماً في المرحلة الأخيرة، بل إنّ التصعيد السياسي والعسكري المعلن هو الذي بات سيد الموقف. وفي هذا السياق جرى استخدام الجامعة العربية، بنحو غير مسبوق، كطرف مباشر في دعم أطراف المعارضة ممن يسمّون «معارضة الخارج»، وخصوصاً من بينهم الأكثر تطرفاً وتشدّداً ونزوعاً نحو الحسم والتدخل العسكريين، وبوسائل الخارج والداخل على حدّ سواء. كذلك يستمر إعلان المواقف الأوروبية المجاهرة بتسليح المعارضة بوسائل قتالية فتاكة، بذريعة أنّ الحل السياسي يتطلّب تعديل موازين القوى لغير مصلحة النظام السوري. والغريب أن أولئك الذين يمارسون التصعيد ويتورطون في توفير أسبابه، يواصلون، على سبيل الكذب والنفاق، التحذير من نتائج ذلك على المنطقة وعلى لبنان والأردن خصوصاً. البيان الفرنسي _ المصري الأخير هو نموذج فاقع عن ذلك.
في هذه المجزرة الفظيعة من الموت والدمار والخسائر من كل نوع، ثمة خاسرون ورابحون كبار. الخاسر الأول هو الشعب السوري الذي يعيش كابوساً مخيفاً لا أفق له إلا المزيد من الخسائر البشرية والمادية التي لا تعدّ ولا تعوَّض. والخاسر الثاني الكبير هو العرب، رغم أن بعضهم يتوهّم تحقيق انتصارات موقتة. فالعرب في حالة انقسام وضعف وتبعية وانعدام وزن، بحيث لن يكونوا شريكاً ولا طرفاً، بأي صيغة وحجم من الصيغ والأحجام، في تقرير مصائرهم وفي تحديد أولوياتهم القومية والوطنية، القديمة والجديدة.
أما الرابح الأكبر، فهو الولايات المتحدة الأميركية، واستطراداً العدو الصهيوني. فالولايات المتحدة التي كابدت هزائم وخسائر وإخفاقات، تعود من الباب العريض: من باب ادعاء الحرص على الديموقراطية وحقوق الإنسان. ومن باب تعزيز الانقسامات الطائفية والمذهبية إلى حدود الفتنة المباشرة. ومن باب القدرة المتزايدة على توجيه مسارات الأحداث. وهي في كل ذلك تجني، أيضاً، مكاسب سياسية واقتصادية ذات طابع استراتيجي، دون أن تدفع، بالمقابل، نقطة دم واحدة أو دولاراً واحداً!
وعندما تكون الإدارة الأميركية هي الرابح الأكبر، فإنّ إسرائيل هي رابح كبير دون أدنى شك. ولقد كشفت زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة هذه الحقائق المرّة، حين برز، دون سواه، التركيز على الدعم الأميركي المطلق والكامل لإسرائيل ولتفوقها ولسياساتها، مقابل كلمات خجولة عن إقامة دولة فلسطينية قابلة للعيش… في ظلّ هيمنة إسرائيلية على الأرجح!
أما روسيا فيعنيها من انخراطها في الأزمة السورية، داعمةً للنظام، محاولة تأكيد حضورها قوةً عظمى في العالم بعد أن فقدت هذه الصفة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي. خسائر روسيا محدودة حتى الآن. نجاحاتها في الميدان الديبلوماسي والسياسي والعسكري، بالشراكة مع الصين خصوصاً، محدودة أيضاً وليست راسخة تماماً. هي اليوم عنصر فاعل في مجلس الأمن. وهي تكاد، في مبيعات الأسلحة تقترب من الرقم الأميركي. لكنها، بالمقابل، مرشحة لمشاكل عديدة، وخصوصاً في الداخل نتيجة هيمنة رئيسها بنحو شبه ديكتاتوري على الحياة السياسية في روسيا.
الحريق السوري حريق عربي بنفس المقدار. ما لا تظهر معالمه ومظاهره اليوم ستظهر بالتأكيد غداً أو في المستقبل. المسوؤليات في هذا الصدد كبيرة وللأخطاء والعجز أثمان مخيفة.
ثمة دائماً نقطة انطلاق. إنها في موقف السلطة السورية إذا كانت لا تزال تقيم وزناً لما تعلنه من تمسك بـ«الممانعة» ولما يعانيه الشعب السوري من قتل ودمار عظيمين. آن الأوان لتلك السلطة أن تتقدم بمبادرة جديدة لإعادة بناء السلطة في سوريا على أساس المشاركة وإنهاء الحصرية والاستبداد. هذه المبادرة، إذا اعْتُمِدَت ستعزل المرتهنين والمتطرفين. إنهاً، أيضاً، مسؤولية قوى شريكة للنظام أو رافضة للعنف وللأجندات الاستعمارية.
مثل هذه الوجهة يجب أن تُحفِّز، أيضاً، نشاطاً ومبادرات للقوى العربية الحريصة على سوريا وعلى قضايا العرب عموماً.
* كاتب وسياسي لبناني