المجتمعات البشرية تنبض بالحياة فلا تعرف الثبات، بل هي في حالة حراك دائم وتغير مستمر، والحراك الشعبي في جانبه السياسي يرمز إلى التحرك الميداني لمكونات المجتمع الاجتماعية والسياسية المختلفة؛ للتعبير عن رفضها للوضع القائم والمطالبة بالتغيير، حيث يأخذ أشكالا متعددة كالمطالبات والاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات، وقد يصل في حالته القصوى إلى العصيان المدني والثورة.والحراك الشعبي لدينا بدأ يتصاعد تدريجياً منذ 2009، حيث اتضح دوره بجلاء في نجاح المقاطعة الشعبية الواسعة لانتخابات مجلس الصوت الواحد، ثم أثناء خروج عشرات الألوف من المواطنين في مسيرات “كرامة وطن” وغيرها من المسيرات والأنشطة العامة الرافضة لعملية الانفراد بالقرار والمطالبة بالإصلاح السياسي والديمقراطي.
وبالنسبة إلى تمثيل الحراك الشعبي فلا أحد، سواء من القوى السياسية أو الأفراد، باستطاعته الادعاء بتمثيل “المعارضة” التي أصبحت اليوم حالة شعبية عامة رافضة للوضع الحالي ومطالبه. وبالرغم من أنه من الأفضل توحّد قوى “المعارضة” في كيان تنظيمي واحد، إلا أنه يحصل أن تتعدد “تنظيمات” الحراك السياسي وتختلف أحياناً حول بعض التفاصيل الجزئية المتعلقة بأساليب العمل وآلياته أو حول أولويات الإصلاح السياسي والديمقراطي ومتطلباته، فمثلاً بعض أطراف “المعارضة” لدينا تطالب بعملية التدرج المُمنهج التي تأخذ في الاعتبار الظروف الذاتية والموضوعية وموازين القوى داخل المجتمع، بينما يدعو البعض الآخر إلى عملية “حرق المراحل”، وطرف ثالث في “المعارضة” يكتفي برفض عملية الانفراد بالقرار لكنه يختلف مع الآخرين حول مستلزمات الإصلاح السياسي.
أما مطالب الحراك الشعبي فباتت واضحة للجميع ويمكن تلخيصها بشكل عام برفض الانفراد بالقرار المتعلق بإدارة شؤون الدولة والمجتمع والمطالبة بالإصلاح السياسي والديمقراطي.
فهل تراجع الحراك الشعبي كما تُروّج بعض وسائل الإعلام المعادية للإصلاح؟ إذا كان المقصود بالتراجع هو التخلي عن المطالب السياسية التي أعلنت في بداية التحرك الشعبي فإن الجواب هو بالنفي القاطع، فمعارضة الوضع السيئ الحالي والمطالبة بالإصلاح السياسي والديمقراطي أصبحت اليوم حالة شعبية عامة لا تقتصر على فئة اجتماعية محددة أو فصيل سياسي معين، وهذا تطور نوعي في وضعنا السياسي.
أما إذا كان السؤال يتعلق بأساليب الاحتجاجات وعدد المشاركين فيها وديمومتها أو بعملية تغير الاصطفافات السياسية فهذه أمور لا يمكن الحكم على فعالية الحراك من خلالها فقط؛ لأنها تتأثر بشكل مباشر وقوي بعوامل عدة من ضمنها المدة التي تستغرقها عملية التغيير الديمقراطي، والتي قد تتغير خلالها المصالح أو قد يصاب البعض خلالها باليأس والإحباط وخيبة الأمل لا سيما في ظل التعتيم الإعلامي وخلط الأوراق والهجوم المكثف والشرس الذي تمارسه الآلة الإعلامية المضادة من جهة، والقبضة الأمنية والملاحقات السياسية من جهة أخرى.
أضف إلى ذلك أن ثقافة المجتمع وإرثه السياسي في تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات وغيرها من وسائل الاعتراض تلعب دوراً مؤثرا هنا، وهو ما نفتقده حيث لا يوجد لدينا أحزاب سياسية منظمة تنشر الوعي بين الناس وتوجههم وتقود تحركاتهم، بل يغلب على قيادة العمل السياسي والميداني لدينا الطابع الفردي والحماس العفوي.
وبالرغم من ذلك فمن الملاحظ أن وعي الشباب بطبيعة المرحلة ومتطلباتها قد بدأ يتطور بشكل مثير للإعجاب، كما أنهم اكتسبوا مهارات سياسية وتنظيمية جديدة ونوعية ستمكنهم من تطوير أساليب العمل وتجاوز أخطاء الماضي.