هل يمكن الحديث في عالمنا المعاصر المترح بكل أسباب الانعتاق والتحرر من القيود، عن إمكان السيطرة على المجتمعات وإدارتها وتوجيهها في الاتجاهات المحققة لأهداف وغايات جماعات الضغط النافذة والمتحكمة بمصالح متوغلة ومتغولة في كل مفاصل الدولة وتفريعاتها المباشرة وغير المباشرة؟
لوهلة قد يبدو هذا التساؤل ساذجاً أو محض دعابة، وقد يُنسب أيضاً إلى طائفة القراءات والتحليلات والتنظيرات المحسوبة على نظرية المؤامرة . وكل هذا وارد بالتأكيد أو غير مستبعد من ملكة التفكير التأملي في فسيفساء المخرجات – المعقد منها والجليّ – المتوافرة والمتواترة لمختلف أساليب الإدارة الكلية للمجتمعات، المتقدمة والنامية على حد سواء .
إنما مع قليل من الجهد البحثي المتعمق في دراسة آليات الإدارات الكلية للمجتمعات، المؤسسية منها والأخرى الموازية، أي غير الظاهرة للعلن، وشبكة علاقاتها المتمددة، وصولاً على قلب دوائر صنع القرار، سوف يجد أن الأمر يستأهل وقفة تأملية وتفكرية، ضرورية من أجل فهم أفضل لماهيات – وماورائيات إن شئتم – عمل أجهزة التسيير الحكومية، خصوصاً في عواصم القرار الدولي، وحجم وحدود عمل وإمكانات الآليات الديمقراطية المعتمدة كمرجعية وأدوات تسيير حكومية ومجتمعية .
لنأخذ الولايات المتحدة مثالاً في هذا الصدد، باعتبارها أكثر القوى العالمية نفوذاً وتأثيراً في مسارات واتجاهات التطور السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي والثقافي، وهي في ذات الوقت تمثل – إلى جانب ديمقراطيات أوروبا الغربية – طليعة الديمقراطيات الليبرالية الراسخة في العالم الرأسمالي منذ أن زاوجت الرأسمالية بين رأس المال ونزعته الوثابة وبين صيغتها الديمقراطية الليبرالية، سنجد في عناوين القراءة الأولية أننا أمام تجارب لدول قومية عريقة في احترام قيمة الإنسان وحريته . دول جعلت من القوانين والنظم والتشريعات، الفيصل في بناء علاقات مجتمعية صحية ومستقرة حتى أضحت نموذجاً لدولة القانون الساري على الجميع دون استثناء، بما يفسر حيازتها طوعاً “فضيلة” هيبة الدولة وأجهزتها .
هل هذا كل شيء؟
ليس تماماً، فهناك في الظلال تركن وتكمن دولة أخرى غير مرئية تأتلفها لوبيات المصالح العملاقة التي تشكل جماعات ضغط على الدولة وعلى آليات عملها المتصلة بصورة مباشرة وغير مباشرة، بإنفاذ القانون وتسييل وتسهيل انتظام عملية الممارسة الديمقراطية كما هي مثبتة في وثيقة الدستور والقوانين المنظمة لمجمل العلاقات المجتمعية .
فالدولة العميقة، بمعنى الدولة الموازية المتجذرة العروق في مفاصل الدولة والكيانات المجتمعية، تسيطر سيطرة شبه مطلقة على أجهزة الميديا فتفقدها استقلالها وتوجهها الوجهة المعبرة عن مصالح كبار الملاك والحيازات، والوصول إلى سدة الحكم، أي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية يكاد يكون مقنناً ومحتكراً من قبل نسبة مئوية ضئيلة جداً تستحوذ على حصة الأسد من الثروة ومن إجمالي المداخيل السنوية لمجموع السكان (يستحوذ 1% من السكان على 6 .34% من كامل الثروة المالية، فيما يستحوذ 10% من السكان على 80% من هذه الثروة، بينما لا تتجاوز حصة 90% ممن هم أسفل الهرم الاجتماعي 20% من الثروة المالية) . كما أن السلطة العليا المختصة بصناعة واتخاذ وإنفاذ القرار مُحتكرة بين حزبين اثنين فقط هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، حيث يتقاسمان تمثيل مصالح نسبة ال 1% من الطبقة الأكثر ثراءً ونفوذاً في المجتمع الأمريكي، وبصورة أوسع تمثيلاً لنسبة ال 10% المستحوذة على 80% من إجمالي الثروة المالية للبلاد .
وليس أمام أي قوى اجتماعية تنتمي إلى التيارات الديمقراطية الاجتماعية المعبرة عن شرائح الطبقات الوسطى والفقيرة، فرصة “لقضم” ولو جزء يسير من هذه “الكعكة”، مثلما أن من الاستحالة بمكان حصول هذه الشرائح على مساحة ولو ضيقة للتعبير عن مصالحها في أجهزة الميديا المكرسة والموجهة أيديولوجيا للتعبير عن مصالح “الكبار” حصراً .
وبمساعدة نظام وآليات السيطرة المنظمة بإحكام، يجري تأمين استدامة التحكم في مفاتيح اللعبة الديمقراطية وضبط إيقاع حركة المجتمع وتوجيه وتشكيل وإعادة تشكيل وعيه الجمعي بما لا يسمح للحراك الفكري والثقافي والمجتمعي العام لشق مسارات تطور “شاذة” خارج إطار تلك التوليفة الموضوعة والمغلقة بإحكام أمام “التسربات” غير المرغوبة .
ولا يقتصر دور ونفوذ النموذج الأمريكي للدولة العميقة على الداخل الأمريكي فقط، بل إن أذرعها الطويلة ممتدة ومتوغلة في مفاصل النظام الدولي، ما يتيح لها، على سبيل المثال لا الحصر، تحريك دعوى قضائية في محكمة الجزاء الدولية متى شاءت ضد دولة أو حكومة أو مسؤول في حكومة لأغراض الضغط والابتزاز المحققين لمصلحتها، والعكس صحيح، أي أنها تلجأ متى أرادت إلى استخدام نفوذها للحيلولة دون تحريك مثل هذه الدعوى القضائية حيثما تطلبت مصلحتها ذلك، وكل ذلك بالرغم من عدم عضويتها هي نفسها في هذه المحكمة الدولية . . وهذا ينطبق على تحريك ملفات حقوق الإنسان وإحالتها من عدمه إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بفرض عقوبات على الطرف غير المحقق للمصلحة الأمريكية في تلك اللحظة التاريخية المحددة .
وهكذا يبقى التعويل على القيام بإحداث التغيير من داخل “السيستم” نفسه، وهذا صحيح، وقد جربه الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي، إلا أن مراكز القوى أو الدولة العميقة قد عاجلته بتصفيته غيلةً بعد أن شعرت بتهديده ل”السيستم” من خلال خططه لإعادة هيكلة وكالة المخابرات المركزية “سي .آي .إيه” لإبعادها عن سيطرة جماعات الضغط الرأسمالية، واعتزامه إعادة هيكلة نظام مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي)، وإنهاء الحرب في فيتنام . الرئيس باراك أوباما هو الآخر يحاول بذكاء حذر اعادة تموضع مراكز القوى المهيمنة على صناعة القرار في واشنطن، والعمل على إدخال تعديل نوعي في ميزان القوى الاجتماعية بتثقيل وزن الطبقة الوسطى وما دونها في سلم الهرم الاجتماعي، وقد حظي حتى الآن بنصيبه هو أيضاً من محاولات الاغتيال، المادي والسياسي .
في عام 1890 شرع الكونغرس الأمريكي ما سُمّي بقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار (نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ جون شيرمان)، لمعالجة تنامي خطر الاحتكار على ال”سيستم” الذي مارسته آنذاك “شركة ستاندرد أويل” في مجالات النفط والنحاس والمشروبات الروحية، فتمت تجزئة الشركة إلى بضع شركات متنافسة . وهذا ما حدث أيضاً لشركة “مايكروسوفت” . السؤال الآن: أوليس تضخم حجم الحزبين الجمهوري والديمقراطي واحتكارهما طوال عشرات السنين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد الأمريكية، يعد سبباً كافياً لتدخل الدولة لوضع حد لاحتكارهما، وذلك منعاً لإفسادهما الممارسة الديمقراطية التي يفترض أن تمثل مخرجاتها مصالح شرائح المجتمع كافة؟