المنشور

انهيار الصين برسم توقعات فوكوياما



عاد
الأكاديمي الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما إلى تنبؤاته
المستقبلية عن النظم الاقتصادية/ الاجتماعية التي سيكتب لها البقاء والأخرى
المحكوم عليها بالفناء القريب بسبب انسداد أفقها على حد تكهناته .


فبعد
نظريته الشهيرة عن نهاية التاريخ والتي توقع فيها أن تكون الرأسمالية
(بنسختها الأمريكية الراهنة، النيوليبرالية) هي خاتم النظم الاقتصادية/
الاجتماعية في الحياة الحاضرة والمستقبلية للمجتمعات البشرية المتوزعة على
امتداد كوكبنا الأرضي، تحول اهتمامه شرقاً، والهدف هذه المرة هو الصين التي
باتت تشكل الهاجس الأعظم للطبقة السياسية الأمريكية الحاكمة ومشيختها
الفكرية .


ففي
حديث لوكالة أنباء “فرانس برس” نُشر أواسط شهر ديسمبر/ كانون الأول
الماضي، توقع فوكوياما أن ينهار النظام الصيني بسبب فقدان قنوات الاتصال
بين قمة الهرم السياسي والقاعدة الجماهيرية، وذلك نتيجة لغياب حرية الإعلام
وعدم إجراء انتخابات محلية .


وإذ
يقر فوكوياما أن الصين “كدولة مركزية قوية تاريخياً” استطاعت أن تقود
نمواً اقتصادياً متصاعداً – وهو ينسب فضل هذه الخاصية الصينية إلى ما أسماه
أداءها الرائع في السنوات الثلاثين الماضية – إلا أنه سرعان ما يستدرك
ليقرر أن غياب آليات المحاسبة، رغم ذلك الأداء الباهر، يجعل البلاد معرضة
لما أسماه “مشكلة الإمبراطور السيئ” .


قد
يقول البعض إن توقعات فوكوياما، التقريرية وليست الاحتمالية، بشأن الصين،
يفترض ألا تؤخذ على محمل الجد باعتبارها أحاديث صحفية مرسلة أدلى بها دون
تحضير أو تفكير متعمق . هذا احتمال لأعذار يمكن قبولها لولا أن هناك
احتمالاً آخر غير مستبعد هو الآخر، وهو أن هذه الآراء الصحفية التي قد تبدو
مرسلة، هي خلاصات مؤسسة على دراسة أو بحث (أو أكثر) أجراه فوكوياما عن
الصين .


ربما
أدرج البعض من مراقبي الوضع الدولي، لاسيما الراصدين للتغيرات المرئية
وغير المرئية الحاصلة في ميزان القوى الدولي، خصوصاً بين القوى العظمى في
العالم، أدرج تكهنات فوكوياما الصينية، ضمن حملة الحرب الإعلامية والنفسية
التي تستهدف الصين بطريقة غير محسوسة من جانب الأمريكيين والأوروبيين
باعتبارها وسيلة يعولون عليها لأن تكون ناجعة وفاعلة في التشويش على الأداء
الاقتصادي القوي والمتماسك للاقتصاد الصيني وتصاعد النفوذ الصيني في
العالم وارتياده مناطق لم يكن للصين فيها نفوذ صريح قبلاً، وذلك بعد أن
أدركوا، على ما يبدو، أن مزاحمتها بوسائل المنافسة الاقتصادية التقليدية،
لم تعد مجدية نتيجة لاستمرار احتفاظ الصين بأرجحية في مكونات تنافسيتها
الاقتصادية .


هذا
احتمال وارد، خصوصاً إذا ما أُخذ في الاعتبار أن عدداً متزايداً من
الخبراء الأمريكيين والأكاديميين والأوروبيين من أصول يابانية صاروا
يتبرعون للانخراط في حملة النقد والتقريع والتشكيك في مستقبل الصين
واقتصادها القومي، وذلك بدفع من فزعتهم القومية للوطن الأم “اليابان” التي
تشهد حالة من نهوض العصبية القومية اليابانية قبالة الصين بسبب نزاع
البلدين على خمس جزر غير مأهولة تقع في بحر الصين كانت قد استولت عليها
اليابان في حرب العام ،1895 بين البلدين والتي تسميها الصين جزر “ودياويو”
بينما تسميها اليابان “جزر سنكاكو” .


ومهما
يكن من أمر فإن تنبؤات فوكوياما الخاصة بالصين ليست كلها تخرصات كيدية .
قد يكون ادعاؤه بشأن فقدان قنوات الاتصال بين قمة الهرم السياسي والقاعدة
الجماهيرية، أقرب إلى القول المرسل غير المؤسس فكرياً بصورة وافية منه إلى
التقرير الرصين الحصيف لظاهرة كيفية إتمام عملية الربط بين القمة والقاعدة
في الأنظمة السياسية المركزية الشمولية . وخصوصاً أنه سارع بهذا الزعم
لخلاصته المستهدفة أصلاً وهي غياب حرية الإعلام وعدم إجراء انتخابات محلية .


إنما
ملاحظته الخاصة بغياب آليات المحاسبة، رغم الأداء الباهر للاقتصاد الصيني،
تبدو أقوى وأكثر تماسكاً، ولا غبار عليها على الإطلاق . فمهما بلغ
الانضباط الحزبي لطاقم القيادة الصينية، أي أعضاء المكتب السياسي واللجنة
المركزية . . ومهما كانت فعالية آلية الرقابة الحزبية الداخلية وأدوات
ردعها المشددة، فإنها تبقى عاجزة، في ظل الإدارة الشمولية، عن ملاحقة وتتبع
“فيروس” الفساد الباحث عن مثل هذه البيئة المثالية للازدهار .


مما
لاشك فيه أن القيادة السياسية الصينية والحزب الشيوعي الصيني الحاكم
تحديداً قد أدخل في مؤتمراته الحزبية الأخيرة لاسيما المؤتمر الثامن عشر
للحزب الذي عقد مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، الكثير من السياسات
والتشريعات والضوابط من أجل ترشيد أداة الإدارة الكلية المجتمعية للبلاد
وإطلاق ديناميات لقطاعات جديدة لتأمين استمرار عطاء الحراك المجتمعي،
خصوصاً على صعيده الاقتصادي، بنفس الزخم . ولكن العمل البيروقراطي الموازي
الذي تؤديه الحكومة للسيطرة على المجتمع وعدّ أنفاسه وآخره تشديد الرقابة
على شبكة الإنترنت، يعمل بدوره على مفاقمة تقيّحات وصديد هذا الاستبداد
الشمولي ويعزز مصادر ومواقع الفساد، فلا يحول، ترتيباً، دون ترنح المؤسسة
الضخمة في نهاية المطاف .