لم ينشر كتاب نيكولا ميكافيللي “الأمير” إلا بعد وفاته، هاجمت الكنيسة الكتاب وكذلك فعلت سلطات روما التي وضعته ضمن الكتب الممنوعة في منتصف القرن السادس عشر، ولكن بعد قرنين، تزامناً مع عصر النهضة، غدا الكتاب يحتل مكانته الكبيرة، ليصبح مرجعاً يعود إليه الساسة والقادة والمفكرون .
كان هتلر يضع “الأمير” بجانب سرير نومه، ليطالع فيه بضع صفحات كل ليلة قبل أن يخلد إلى النوم، ليتزود من نصائح مؤلفه في كيف يسوس الناس، ويُحكم هيمنته على الرأي العام، أما مُواطن ميكافيللي وواضع الفكرة الفاشية الايطالي موسوليني فقد اختار كتاب “الأمير” موضوعاً لأطروحته التي قدمها للدكتوراه، ومثلهما فعل الكثير، ممن سبقهم وتلاهم، من الملوك والأباطرة والحكام، ومن أبرزهم صانع الوحدة الألمانية بسمارك .
لكن سيبدو صاعقاً معرفة أن محمد علي باشا وهو يسعى لتنفيذ مشروعه النهضوي في مصر، طلب من مترجمين محترفين ترجمة “الأمير”، لكثرة ما سمعه عن الكتاب ولرغبته الملحة في الاستفادة من دروسه . ولشدة تشوقه لمعرفة مضمون الكتاب طلب من المترجمين موافاته أولاً بأول بكل فصل من الكتاب ينتهون من ترجمته، لكن بعد أن قرأ فصلأً أو فصلين من الكتاب طلب من المترجمين إيقاف ترجمته، وقال قولة شهيرة: “إنني أفهم في دواهي السياسة أكثر مما هو مذكور في الكتاب” .
وهنا السؤال: أكان أولئك الذين عاشوا قبل ميكافيللي من الملوك والقادة والحكام والطغاة لا يعرفون ولا يطبقون المبدأ الذي نسب إليه: “الغاية تبرر الوسيلة” . ألم تكن السياسة، منذ أن نشأت قائمة على هذه القاعدة قبل ميكافيللي وفي زمنه ومن بعده، بل لعل جُل ما فعله الرجل هو أنه دوّن خلاصة السياسة والحكم قبله، ليعود إليها من يرغب ممن يأتي في العصور اللاحقة .
نادرة جداً هي الحالات التي اقترنت فيها السياسة بالأخلاق، يمكن أن نذكر هنا حالة المهاتما غاندي في الهند ونيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، بينما القاعدة أن السياسي حين يحدد الهدف نصب عينيه لا يكترث كثيراً بالوسائل، وتكفي نظرة منصفة للتاريخ لترينا ذلك، حتى الثورات الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ مارست من العنف ما لا يقل عن ممارسات الطغاة من الحكام الذين ثارت عليهم .