مرت أمس الذكرى الثالثة لرحيل عازف السكسفون الحزين، ومانديلا البحرين، وأشهر سجين سياسي في تاريخ هذا الوطن، لكن صفحته في الحياة لم تطو ولن تُطوى أبداً. سيظل مجيد مرهون كما كان فلذة من قلب هذا الوطن، إن أجيال الغد، كما أجيال اليوم، ستظل تستمع بفخر وإعجاب إلى أعماله السيمفونية الرائعة، التي طافت باسم البحرين في فضاءات العالم.
رجل نادر جمع بين الإبداع والنضال، فيه سيذكر البحرينيون وجهاً مضيئاً من وجوه نضالهم ضد الاستعمار البريطاني وآلته القمعية التي نكلت بالمناضلين من أجل الاستقلال الوطني والحرية والتقدم الاجتماعي، وبإقدام المناضل وجسارته حمل على عاتقيه اثنين وعشرين عاماًً من السجن، الذي لم يفلح في ثني إرادته، مع أن السجان جعله مكبلاً بالأصفاد في رجليه لعدة سنوات، ومن هذه المعاناة استوحى بعض مقطوعاته الموسيقية التي كنا نسمع فيها صليل الحديد وهو يجره في رجليه.
روى مجيد حكاية طفولته في حي العدامة بالحورة الذي ولد فيه، حي البسطاء المعدمين والكادحين المهمشين الذين كانوا يعيشون أسوأ أنواع شظف العيش، ويركضون لاهثين وراء لقمة العيش وكسـرة الخبز، وخوفاً من الأمراض التي تحصد فيهم حصدا.
في هذا الحي المبني من بيوت السعف والأزقة الضيقة، ولد مجيد مرهون في عز ظهيرة يوم قائض شديد الحرارة، كان ذلك بتاريخ 17 أغسطس عام 1945. يقول مجيد إن ذلك حدث بعد أسبوع واحد فقط من قيام القوات الأمريكية بإلقاء القنبلة الذرية الثانية على اليابان. وكانت الحرارة في ذلك اليوم على أشد ما يمكن تصوره، بسبب انتشار الغبار الذري في الغلاف الجوي حول العالم.
الفتى المنذور للإبداع، سيصبح منذورًا للنضال أيضا، في ذلك الزمن الجميل الذي كان المبدعون لا يجدون أنفسهم إلا في الانحياز لقضية شعبهم، وللنهج الثوري التقدمي المعبر عن التوق للحرية. أحد الشباب الذين كانوا يدرسون معه في مركز التدريب المهني في بابكو لكنه يسبقه بفصل واحد، وهو حسن علي محمد المحرقي، سيأخذ بيديه الى الفكر التقدمي، وبعد حين لم يطل بات مجيد على يقين من أن الميول والتوجهات الاشتراكية أقرب إلى قلبه وعقله.
حينها سئل إن كان يرغب في الانضمام لجبهة التحرير الوطني المناضلة من أجل حقوق الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة ولأجل الديموقراطية. يقول مجيد: «بدون تردد أعلنت رغبتي ولهفتي للانخراط فيها». ودفع ضريبة هذا الخيار حتى النهاية.
ان معاناة هذا الإنسان الصلب كالفولاذ والرقيق كوردة أو فراشة، العظيم في إبداعه ونبوغه الموسيقي والوديع في شخصه كطفل مسكون بالبراءة هي التعبير الأكثر بلاغة ودراماتيكية عن الثمن الباهظ الذي دفعه جيله من تضحيات، ابتدأت في عهد الحماية البريطانية واستمرت بعد انتهائها. وقد حوّل مجيد سنوات سجنه الطويلة إلى ورشة إبداع تثير الذهول، فخلف لنا مئات المقطوعات الموسيقية التي ما زال الجزء الأكبر منها لم يعزف بعد، كما انكب على وضع عمله الموسوعي الضخم:» القاموس الموسيقي» الذي أصدر مركز الشيخ إبراهيم الخليفة جزئه الأول، على أن تصدر بقية الأجزاء تباعاً.