أهي المصادفة وحدها من قادت غلاة التعصب والظلامية في مصر وسوريا، ليستهدفوا تمثالي العملاقين في تاريخ ثقافتنا العربية: تمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان ليس بعيداً عن قلب حلب، وتمثال طه حسين في المنيا بمصر؟
أكان هؤلاء على هذه الدرجة من الدراية، بحيث أدركوا، رغم المسافة بين معرة النعمان في سوريا والمنيا في مصر، أن الرجلين اللذين استهدف رأسا تمثاليهما، هما من القماشة الإنسانية والفكرية ذاتها، وأنهما، وهما الضريران، كانا أبعد بصيرة من كل المبصرين في زمنهما، وأن الثاني الذي أتى بعد الأول بقرون قد استلهم منه قوة المثال وجسارة العقل، وسار على خطاه في تحدي السائد، والإبحار نحو المستقبل .
القاتل المحترف يوجه رصاصته عادة نحو رأس الضحية، خاصة حين يكون الضحية بوزن المعري وطه حسين، هذا ما فعله القتلة في تونس بحق المناضل شكري بلعيد، وما فعله أسلافهم منذ عقود بحق حسين مروة ومهدي عامل وسهيل طويلة في بيروت، ولأن المعري وطه حسين ليسا في زمننا الأسود هذا، فإن الجناة استهدفوا رأسي تمثاليهما في تجسيد بالغ لاستهدافهم عقلي الرجلين، لأن المراد اليوم تغييب العقل، وتسييد ثقافة الجهل تحت لافتات الجهاد الزائفة، وما من أحد أكثر من المعري وطه حسين تجسيداً لهذه العقلانية التي تراد إزاحتها من فضاء الحياة العامة في العالم العربي لتطبق عليه الظلمة التامة .
أبلغ رد على محنة الثقافة الديمقراطية والفكر التقدمي في بلداننا اليوم هو بالعودة إلى تراث المعري وطه حسين ومن هم بوزنهما وإضافاتهما الخلاقة للتراث الفكري العقلاني في ثقافتنا، التي يتمثل حاملها في مرتكزين، الأول هو البعد الوطني في كل بلد مستهدف باستشراء الغلواء المذهبية والطائفية التي مزقت النسيج الوطني، والبعد الديمقراطي المستهدف هو الآخر تحت تأثير نمو التيارات المحافظة التي استهدفت الحداثة كفكرة وكنمط للمعيش .
مصر ليست مصر، وسوريا ليست سوريا من دون ثقافتهما وفنهما وموسيقاهما ومبدعيهما من الرجال والنساء، وما يقال عن مصر وسوريا يصح على أي بلد عربي آخر من خليجنا إلى محيطنا، فذاك هو روح الشعوب وضميرها، والثيوقراطية الدينية التي تدعي، زيفاً، انتسابها إلى الدين هي نقيض كل هذا . إنها والفن نقيضان لا يجتمعان .
إن دوراً يتحلى بالشجاعة بات مطلوباً بإلحاح من المثقفين العرب لإيقاف هذه الردة .