عندما ينام شعبٌ على خبر إلقاء القبض على «خلايا إرهابية»، ويستيقظ على نشر صورهم صباح اليوم التالي في الصحف، فاعلم بأن هناك خللاً سياسياً وحقوقياً كبيراً في ذلك البلد.
نشر صور أشخاص يفترض أن يكونوا «مشتبهاً بهم»، والتشهير بهم قبل أن تثبت عليهم التهم، مخالفةٌ صريحةٌ للقاعدة الحقوقية التي تؤمن بها كل شعوب وحكومات العالم: «كل متهم بريء حتى تثبت إدانته»، وهي القاعدة الأولى التي يقوم عليها القضاء وتنتظم الحقوق.
ليست هي المرة الأولى التي تنشر فيها الصحف المحلية صور متهمين سياسيين، وتشهّر بهم، وتشوّه صورتهم، وتلصق بهم تلك التهم الجاهزة، من إرهابيين ومخربين ومتآمرين. كما أنها تخالف خمسةً من مبادئ ميثاق الشرف الصحافي العشرة: ابتعد عن الأحكام المسبقة، كن موضوعياً، افصل التعليق عن الخبر، توخِّي الدقة، ولا للعنصرية. وكلها مخالفات وقع فيها من نشر صور «المتهمين» بهذه الطريقة.
ليست هذه هي المرة الأولى ولا أعتقد أنها ستكون الأخيرة، فالصحافة المحلية مستمرةٌ في هذا المسلك المخالف للمهنية والمبادئ الأخلاقية ومنظومة حقوق الإنسان. ورغم كثرة الانتقادات الموجهة لتلك المؤسسات، سواءً من منظمات المجتمع المدني، وجمعيات حقوق الإنسان، وحتى من الصحافة المستقلة، إلا أن واقعها يؤكد أن «من شبّ على شيء شاب عليه».
القضية قضية مبدأ وأخلاق بالدرجة الأولى، وإذا سقطت الصحافة في هذا الامتحان، وأصرّت على هذه الممارسة الخاطئة، فإنها تسير في الاتجاه الخاطئ من التاريخ.
الإعلام الذي يعيش في الماضي، ويتصرّف بعقلية الماضي، ويفترض أن من يخاطبهم مجرد مجاميع مستلَبَة الوعي، فإنه إعلامٌ يعيش في الوهم.
اليوم، في زمن الربيع العربي، لم تعد الروايات الرسمية مسلّمات يأخذ بها الرأي العام، وما تذيعه التلفزيونات والإذاعات والأقلام الحكومية يتلقاها الناس بالكثير من التشكك والارتياب. وهذا هو سر تباكي وسائل الإعلام الرسمية في البلدان العربية على نفسها، وندبها لحالها لانفضاض الناس عنها. كما أنها سبب عدم تصديق الناس لما يصدر عن الجهات الرسمية من روايات، وتعتبرها مجرد أخبار علاقات عامة، أو مكائد ضد المعارضين، يعدها للنشر موظفون على مكاتبهم وهم يحتسون الشاي.
هذا الانتقاد الذي دأبنا لسنواتٍ على توجيهه إلى الجهات الرسمية والصحف المقرّبة من السلطة، كلما استجد حادث أمني أو احتقان سياسي، بدأ يصل كرسالة في هذه الفترة، ويتسرب كثقافةٍ جديدةٍ، وإن لم يأخذ مداه للالتزام والتطبيق. فالمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان (وهي مؤسسةٌ رسميةٌ) أصدرت بياناً أمس، عبّرت فيه عن رفضها القاطع لما تم نشره في وسائل الإعلام الرسمية وبعض الصحف اليومية لأسماء وصور المتهمين في قضية ما يسمى بـ «الخلية». وأكّدت على ضرورة التزام الجهات المعنية بأحكام دستور مملكة البحرين، المادة 20 الفقرة (ج): «المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة وفقاً للقانون»، والمؤكد أن المعتقلين الجدد تمت إدانتهم مسبقاً، وتم تصنيفهم في خانة الإرهابيين، وصدر الحكم عليهم مسبقاً، وانتهى الأمر.
المؤسسة أشارت أيضاً إلى مخالفة ذلك للمادة (83) من المرسوم بقانون (46) لسنة 2002 بشأن قانون الإجراءات الجنائية، التي تعتبر إجراءات التحقيق والنتائج التي تسفر عنها «من الأسرار». وما هو واضحٌ أنه تم نشر هذه «الأسرار» على رؤوس الأشهاد.
نشر الصور على الصفحات الأولى للصحف، وإلصاق التهم بهؤلاء المواطنين، مخالفة صريحة للفقرة الأولى من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على أن: «كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه»، والواضح أنه تم اتهامهم بصورة كيدية مسبقة، قبل أن تُحوّل أوراق قضيتهم إلى المحكمة أصلاً لينظر فيها القضاء. كما يخالف ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي ينص على «حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئاً إلى أن يثبت عليه الجرم قانوناً» (المادة 14، الفقرة 2).
كما أن نشر الأسماء والصور بهذه الطريقة، مخالفةٌ أيضاً للاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري – حسب بيان المؤسسة نفسها – التي انضمت إليها البحرين العام 1990، ولكن دون تطبيق، خصوصاً من جهة وجوب منع الجهات الرسمية من التعبير عن آرائها علانية فيما يتعلق بذنب المتهم قبل أن تتوصل المحكمة إلى حكم في القضية، بل ويجب منعها من إثارة الشبهات مسبقاً حول أشخاص ينتمون إلى جماعة عرقية أو إثنية بعينها».
أما آن لهذه السياسة الخاطئة أن تتوقف؟ احتراماً لسمعة البحرين ولحقوق الإنسان.
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3820 – الخميس 21 فبراير 2013م