نترك الموجة الجديدة للتداعيات التي فجرتها كارثة حريق فريق المخارقة ونبتعد عن التبريرات التي توجع القلب، لنذهب الى ثلاث خلاصات شديدة الاهمية اراها تعيد تذكيرنا بجملة من العناوين الظاهرة والمضمرة التي تتفيأ في ظلها ملفات مثقلة بأثمان باهظة وركود مزمن وفرص ضائعة وطلاسم لم تفك لتفهم، وكأن هناك علة لم يستطع احد ان يكتشفها..!
الخلاصة الاولى: ان ردود الفعل ذاتها تتكرر عقب كل كارثة.. اجتماعات تعقد وتبحث في التداعيات والمعالجات، ولجان تشكل تتدارس في الآليات والاجراءات الواجب اتخاذها، وبيانات تصدر من عدة جهات وهيئات حقوقية وعمالية ونقابية مقرونة بعبارات المواساة ومشفوعة بمطالبات بحقوق العمال الوافدين الفقراء ورفض استغلالهم، وتصريحات لا يجد المعنيون عبرها اي حرج في التحدث عن صون ورعاية حقوق العمالة الوافدة والتأكيد على الاهتمام بتوفير معايير المعيشة اللائقة بهم تحقيقا لتعهدات البحرين الدولية، وقد نجد نوابا يقحمون انفسهم على الخط مشمرين سواعدهم بالتلويح بالسؤال والاستجواب، او مبشرين او داعين الى اجراءات اوتشريعات للالتقاء بالاوضاع المعيشية للعمالة الوافدة.
الخلاصة الثانية: ان ما لا يمكن تجاهله ان هذه الكارثة الاخيرة التي راح ضحيتها 13 عاملا آسيويا قدموا الى البحرين بحثا عن لقمة العيش وعن فرصة عمل وتحت اية ظروف ليست الاولى من نوعها، فهناك سلسلة الحوادث المميتة المشابهة التي حدثت على مر السنوات القليلة الماضية والتي لم تسقط من الذاكرة التي راح ضحيتها عمال آسيويين اما حرقا او اختناقا، هل نذّكر مثلا مأساة حريق القضيبية الذي اودى بحياة 16 عاملا، ام حريق جدحفص الذي راح ضحيته 3 عمال، ام نذّكر حادث سوق واقف الذي ادى الى وفاة 4 عمال اختناقا، ام نذكر حادث حريق منزل بالرفاع الشرقي كانت نتيجته مصرع عشرة عمال آسيويين.
جميع تلك الحوادث وربما غيرها يجمع بينها قاسم مشترك واحد هو عدم اعطاء ملف سكن العمال الوافدين وحقوقهم ما يستحقه من اهتمام..
هذا اولا (هذه المساكن كشف بان عددها بلغ 3000 مسكن تضم 138 الف عامل اجنبي..)، وعدم ظهور جهة واحدة تحملت مسؤولية ما حدث!
ثانيا وهذا وجه آخر للمشكلة وجوهرها، وثالثا عدم المضي بجدية الى المعالجات السليمة ومنها ذلك الاقتراح الذي طرحته قبل سنوات الحركة النقابية بتشكيل مجلس اعلى للصحة والسلامة المهنية يمثل اطراف الانتاج الثلاثة يمتلك الصلاحيات في الرقابة والتفتيش على المنشآت ومساكن العمال وظروف العمل والمقاضاة، وها نحن اليوم نجد لجنة وزارية سارعت الى بحث آلية جديدة للترخيص لسكن العمال، وتبحث في سن تشريعات تنظم استئجار المباني الخاصة.
تبقى الخلاصة الثالثة: هو انه ليس واضحا تماما حتى الآن ما هي الجهة التي تتحمل المسؤولية الكاملة لهذه الكوارث التي تحدث. والمسؤولية الجنائية والادبية وحتى السياسية لهذه النوعية من الحوادث، ولهذا الاهمال والقصور الذي لا يلتفت اليه احد الا اذا وقعت كارثة، هل هي حصرا مسؤولية وزارة العمل باعتبارها المعنية بالتفتيش العمالي، ام وزارة البلديات التي لا يهمها سوى استحصال الرسوم البلدية، ام هي المجالس البلدية التي لم تضع ملف سكن العمال في دائرة اهتماماتها، ام هي دائرة الدفاع المدني كونها مختصة باجراءات ونظم الحريق والسلامة، ام هي هيئة سوق العمل التي لم تضبط ظاهرة العمالة السائبة، ام المتاجرون بهذه النوعية من العمالة وبتأشيرات دخولها وبقائها و” بعرق جبينها “، ام اصحاب اعمال لا يبالون بتكدس عدد كبير من العمال في مساكن غير قابلة للسكن «الآدمي» وفي وضع مزرٍ للغاية، ام هو المؤجر الذي لا يجد من يولى اهتماما بمراقبة اوضاع مساكن العمال ولا بضوابط التأجير ولا اي شيء من هذا القبيل.
نعلم بان ملف العمالة الاجنبية ملف شائك، ونعلم ان حقوق العمالة تعتبر مسألة حقوقية واخلاقية وسياسية واقتصادية، ونعلم ان هناك تصريحات منشورة وموثقة لوزراء ومسؤولين في اكثر من موضع ومحفل بشّرتنا باجراءات وقرارات تستهدف توفير الضمانات التي تحسّن من اوضاع العمالة والمحافظة على حقوقها، لعل آخرها تصريح وزير الدولة لحقوق الانسان الذي اكد بأن صون ورعاية حقوق العمالة الوافدة جزءا اساسيا من صلب اهتمام الدولة مطالبا ببذل الجهود لتطوير المنظومة التشريعية للارتقاء بحقوق هذه العمالة. ذلك معلوم بقدر ما هو معلوم ان المحك هو المضي بتلك الوعود والالتزامات على سكة التنفيذ، وان لا تتوقف جهود الدولة عند ذلك الكلام الطيب او عند الاطار القانوني الذي يدعم حقوق العمال في حدود التشريعات فقط، ولكن الاخذ بها على ارض الواقع هو الاهم والمحك، كما هو ضروري وملح اتخاذ خطوات جريئة وحاسمة لانفاذ القانون وتوفير مساعدات وتدابير في مجال الصحة والسلامة في مساكن العمال ومواقع اعمالهم وفقا للمعايير الدولية الحقيقية التي ما ينفك مسؤولين كثر يذكروننا بها، ومراعاة ان حقوق العمالة لا تتضمن فقط ما يقتصر على الاجور وعقود العمال، بل ايضا عدم الانتقاص من حقوقها بتوفير اوضاع معيشية لائقة و” آدمية “، وفي توفير معايير اكثر شمولا للسلامة والامن، وقد يكون مناسبا ان نلتفت الى التجارب القريبة منا في تشييد مجمعات سكنية نموذجية للعمال تحتوي على مرافق صحية وخدمات طبية وكافة وسائل تدابير الامن والسلامة، ويبقى مهما جعل ملف العمالة الاجنبية بكل ابعاده في بؤرة الاهتمام وعلى طاولة البحث والدراسة والحوار، اما الاهم فهو ضرورة التوقف عن تغييب عنصر المساءلة والمحاسبة على الاخطاء والاهمال والتقاعس والتبريرات البالية، والا سنظل نمارس العلاجات المنقوصة التي لا تقدم ولا تؤخر.. المطلوب ان نجد المسؤول.. ولكن هل نجده؟!.
22 يناير 2013