ثمة فارق بين الإشارة والموقف . هذا الأخير يتضمن التحديد الصارم . موقف الإنسان هو كلمته الفاصلة وحكمه القاطع الذي لا يحتمل اللبس ولا التأويل، أما الإشارة فإنها بخلاف ذلك تحتمل الإيحاء والتساؤل . الموقف واضح، أما الإشارة فغامضة، وفي ذلك جمالها وسحرها وفتنتنها وجاذبيتها وقابليتها لاستدراج المرء كي يكتشف كنهها . كل غرابة الإشارة تكمن في أنها تقترح علينا جهداً كي نلتقطها، كي نفهمها ونقترب من الذي تومئ إليه .
النبهاء من الناس يعرفون ذلك . إنهم خبراء ليس فقط في التقاط الإشارات وفهم مغازيها وأبعادها، وإنما في أدائها كأسلوب حياة في التعامل مع الناس ومع الأشياء . الإشارة لغة، وهي بهذا المعنى تحتمل كل تعقيد اللغة: تعدد المعاني والتفسيرات والتأويلات، والتغير الذي يطرأ على دلالة الكلمة تبعاً لموقعها في الجملة، أو في سياق الكلام أو الكتابة . فالإشارة تتطلب مهارة كتلك التي يتمتع بها اللغوي في التعاطي مع اللغة، ليس من حيث هي منظومة قواعد فحسب، وإنما من حيث هي مجموعة دلالات ورؤى .
حين نميز بين الموقف والإشارة، فإننا تحديداً نرمي للقول إن الموقف قرين الجمود والثبات والوضوح البالغ، إذا ما كان الكلام يدور عن الجوانب الرمزية في حياة البشر، أما الإشارة فإنها قرين الإبداع والمخيلة والفراسة في كشف الرداء الشفيف الذي تتدثر به . والإشارة في معنى من المعاني يمكن أن تنطوي على ما هو مخيف ومحير وباعث على القلق، حين ترتبط بالمجهول .
إن إشارة واحدة غامضة يمكن أن تجعلك شديد اليقظة والخوف والحذر من أمور يخبئها لك المستقبل . والمستقبل من طبعه ألا يكون واضحاً . إنه دائماً باعث على الخوف .
الناس لا تخاف الحاضر ولا الماضي، لأنها تعرفهما . حتى الخطر الذي يداهمك به الحاضر يفقد بعد وهلته الأولى صدمته الكبرى، ويعودك على التآلف معه، أما المستقبل لأنه مجهول، فإنه يبعث على القلق والترقب، لا بل والخوف .
الحياة مجموعة من الإشارات، ونحن في خضم اليومي من التفاصيل إزاء هذه الإشارات، نلتقطها أو نسعى لالتقاطها، وأحيانا نخفق في أن نفعل ذلك، وحين نخفق فإننا ندفع ثمن هذا العجز عن الالتقاط .
اكتسب البدوي فراسته من قدرته على التعامل مع إشارات الصحراء، ولا نظن أن حياة اليوم من حيث هي عالم معقد ومتشابك من العلاقات والدلالات بأقل غنى وثراء في إشاراتها .