المنشور

غير معقول



إنه
أمر لا يُصدق . . هل هو الرئيس نفسه الذي وقف على منصة الخطابة في ميدان
التحرير وأقسم اليمين أمام الحشود الغفيرة التي اصطفت لسماع “فارس” أحلامها
في غد يقطع مع ليل الاستبداد والفساد الذي كابدته طوال 30 عاماً وتعهد
أمامهم بأنه سيكون رئيساً لكل المصريين؟


يقف
اليوم، هو نفسه، ولكن ليس بين صفوفهم هذه المرة وإنما من خلف منصة في
القصر الرئاسي، ليس لتوجيه الشكر لهم على انتخابه وتوزيع الوعود الوردية
عليهم، وإنما لتهديدهم بما هو أكثر من الطوارئ التي أمر بفرضها على مدن
القناة بورسعيد والإسماعيلية والسويس . ثم . . وفي معرض خطابه المشحون
بنبرات التحدي يعرض على أحزاب المعارضة الحوار في سيناريو مكرر لخطابه الذي
ألقاه أمام قصر الاتحادية بعد إصداره الإعلان الدستوري يوم 23
نوفمبر/تشرين الثاني 2012 الذي فجّر غضب الشارع ضده وضد الإخوان، حيث هدد
فيه رموز القضاء بالقول “إياكم أن تتصوروا أنني لا أراكم وإن كنت أغض الطرف
عما كنتم تفعلونه”، ولكن التهديد المباشر كان لأقطاب أحزاب المعارضة
بقوله: “سأقف بالمرصاد في وجه من يريد تضييع هذه الفرص على الشعب المصري”
(وكان يقصد فرصة إقرار مواد الدستور من قبل الجمعية التأسيسية على طريقة
“الكلفتة” المتهافتة التي شهدناها جميعاً) .


هذا
شيء ينتمي إلى “مسرح” الحياة البشرية اللامعقول، من حيث إن الرئيس الذي
جاءت به أصوات صناديق الاقتراع، أو بالأحرى نصف صناديق الاقتراع، يلجأ، ولم
يكد يمضي عليه في الحكم سوى بضعة أشهر، إلى أسلوب “تأميم” الحكم ذاته الذي
كان قد لجأ إليه سلفه فور توليه منصب الرئاسة خلفاً للرئيس الذي سبقه
والذي قضى في عملية الاغتيال الشهيرة التي نفذها بالمناسبة إسلاميون
متطرفون هم اليوم يستظلون بحكام مصر الجدد . . أي فرض حالة الطوارئ .


واضح
أن حكام مصر الجدد يحققون الإخفاق تلو الإخفاق بامتياز باهر في ما يتعلق
بإدارة الأزمة . شباب غاضب وهادر يواجَه بخطابات التحدي النيرانية وبفرض
حالة الطوارئ السيئة الصيت في عالمنا العربي . إنما الأزمة ليست في من يحكم
اليوم مصر وليست في سوء إدارتهم وحسب، وإنما في مستوى الوعي، الفردي
والجمعي، لدى قاعدة عريضة من شرائح المجتمع التي لا تتوفر على أساسيات
الحياة الإنسانية الكريمة، فيتم استغلالها والدفع بها كالقطيع نحو “حظيرة”
صناديق الاقتراع التي يتقرر فيها مصير دولة وشعب بأكملهما . لا جدال في أن
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 بمواده الثلاثين، لاسيما مادته
الثانية، قد ساوى بين البشر، نساء ورجالاً، من دون تمييز من أي نوع، بما
يعني ذلك المساواة في حق التصويت والانتخاب . وهو بهذا المعنى يعد قفزة
عالمية نوعية في تحقيق توافق دولي على الحقوق الأصيلة والأساسية للإنسان
على هذا الكوكب أينما وجد . ولكن معدو هذا الميثاق (الكندي جون بيترز همفري
والأمريكي اليانور روزفلت والفرنسيان جاك مارتيان ورينيه كاسان واللبناني
شارك مالك) الذين استلهموا روحه ونصوص بنوده من “إعلان حقوق الإنسان
والمواطن” للثورة الفرنسية لعام 1789 وشرعة “الماغتا كارتا” الصادرة عن
نبلاء بريطانيا العظمى سنة 1215  نقول إن معدي هذا الإعلان افترضوا “على ما نزعم” محو الأمية الأبجدية لتمكين صاحب الحق من ممارسة حقوقه بوعي غير مستلب .


لقد
تمكن الإخوان والإسلاميون من الوصول إلى الحكم باستثمار أصوات البؤساء
والمطحونين . وهؤلاء هم، بحالتهم الرثة والبائسة، سيبقون يشكلون “منجم
الذهب” بالنسبة إليهم . ولذا فليس من مصلحتهم العمل لمصلحة انتشال هؤلاء من
بؤسهم ونقلهم إلى حياة أكرم، تفتح عيونهم على حقيقة كينونتهم وطاقتهم
التغييرية . كذلك فإن هؤلاء الذين قطفوا ثمار انتفاضات “الربيع العربي”، قد
قطعوا الشك باليقين، بسرعة انقضاضهم على كافة مفاصل الدولة، إنهم إنما
جاءوا “لتأميم” الديمقراطية وإن كانت هي التي حملتهم إلى سدة الحكم .