المنشور

جمالية العيش المشترك



حضرتُ،
منذ أيام، محاضرة لأستاذ الفلسفة التونسي فتحي التريكي، تحت العنوان
أعلاه، طاف خلالها في عوالم أفلاطون والفارابي وابن خلدون، وهو يعرض
لمفاهيم التآنس الذي يبدأ من المحيط الشخصي الضيق مع العائلة والأصدقاء،
ليطول الجماعات المختلفة في المجتمع الواحد، وصولاً إلى العيش المشترك على
كوكب واحد بين أقوام وشعوب وثقافات مختلفة .


والتريكي
الذي يُقدم على أنه داعية ومناضل من أجل فكر تنويري، يُولي عناية خاصة
لموضوع التنوع الثقافي، تكون جميع الثقافات، على أساسهِ، في مستوى الاحترام
نفسه، فكل ثقافة مهما صغرت تحمل إمكان الكونية، وحتى لو كانت الغلبة في
لحظة تاريخية معينة لثقافة بعينها، فهذا لا يلغي دور كل الثقافات في تكوين
هذا الإرث العالمي، فالثقافة الأوروبية المهيمنة الآن هي نتيجة لتداخل بين
ثقافات عديدة، بينها الهندية، والصينية، والفارسية، واليونانية، والعربية
الإسلامية وغيرها .


ويفرق
التريكي بين مفهومين: التنوع والاختلاف، وهو يميل إلى الأول وينأى عن
الثاني، لأن الاختلاف برأيه هو الوجه الثاني للوحدة، فإما أنك معي وإما
ضدي، إنه شيء أشبه بالوجه والقفا للقضية نفسها، بينما فلسفة التنوع تبين
ثراء التعدد، لذا فإنه يدعو إلى ابتكار ما يدعوه: وحدة التنوع، الوحدة التي
تعترف بالتنوع الثقافي، عبر التبادل بين الثقافات الذي ليس فيه هيمنة،
يكون فيه عقل المثقف العربي وفكره وعمله كاملاً قادراً على استضافة كل
الثقافات، لنجعل هذه الثقافات تتلاقح وتبتكر ثقافة شاملة، ضمن قاعدة
الضيافة لا قاعدة التنازع . 


من
هنا دعوته إلى الذهاب أبعد مما تحمله فكرة المثاقفة، بالوصول إلى فكرة
التآنس، لأننا إذا وجدنا أرضية للحوار بين الثقافات فلمَ لا نجعل الثقافات
تستأنس بعضها بعضاً، لتنتج ما يسميه سعادة التسالم، أي البحث عن السلم
المشترك . 


في
الظاهر، ستبدو هذه الدعوة ترفاً في مجتمعاتنا العربية اليوم، المنقسمة على
نفسها، والعاجزة عن مد الجسور بين مكوناتها المختلفة، بل واندفاعها العبثي
المجنون لهدّ ما بقي من هذه الجسور المتصدعة، فإذا كانت هذه المجتمعات
عاجزة عن التصالح مع نفسها، كيف بوسعها أن تتآنس مع الآخر وثقافته؟ لكن، لو
أمعنا النظر في الأمر، سنجد أن الحوار المبني على وحدة التنوع هو ملاذ هذه
المجتمعات على صعيدها الداخلي، وعلى صعيد علاقتها مع الأمم الأخرى في هذا
العالم المتشابك، المتداخل، وإلا فإن البديل هو الخراب .