استطراداً في موضوع أسواق العمل الخليجية والتحديات التي تواجهها ومبادرات وبرامج إعادة الهيكلة والإصلاح التي وضعتها حكومات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لمواجهة هذه التحديات وتجاوز آثارها وتداعياتها الخطيرة على البنى والموارد الاقتصادية الوطنية (ضغط بشري هائل على المرافق والموارد)، وعلى مؤشرات قوة العمل النشطة اقتصادياً والبطالة السافرة والمقنعة، وعلى التركيبة السكانية لمجتمعات الخليج العربي . . استطراداً في الموضوع سوف نلقي الضوء على الحالة الأمريكية الشديدة الشبه بالحالة الخليجية من حيث المشكل الاقتصادي الذي تواجهه الولايات المتحدة في ما يتعلق بسوق العمل لديها في ما يتصل بالمكون الذي ينتظم تركيبته، والمشكلة التي ولّدها هذا النموذج التنموي العريق .
ذلك أن النموذج الأمريكي في التنمية اعتمد ومنذ سنوات الهجرة الأوروبية الأولى إلى الأراضي الأمريكية قبل أكثر من مئتي سنة، على قوة العمل المجلوبة من الخارج . . بواسطة تجارة العبيد أولاً، حيث جرى نقل ملايين السود من مواطنهم الأصلية في غرب القارة الإفريقية خصوصاً إلى أمريكا الشمالية واستغلالهم على أيدي المهاجرين والمستعمرين الأوروبيين في أعمال السخرة في قطاع الزراعة ورعاية الماشية أولاً ثم في المهن والحرف وتالياً في الصناعة . . وفي مرحلة تالية جرى، وما زال يجري، تهريب مئات الآلاف من الأيدي العاملة من بلدان الخاصرة الأمريكية أي من المكسيك وبلدان أمريكا اللاتينية وشرق آسيا للعمل بصورة غير مشروعة في مختلف المهن والوظائف الوضيعة منها والفنية بأجور زهيدة .
واليوم فإن الولايات المتحدة تواجه أزمة على صعيد سوق العمل شبيهة إلى حد بعيد بأزمة أسواق العمل الخليجية، متمثلة في وجود عمالة أجنبية (لاتينية ومكسيكية وآسيوية أساساً)، جزء كبير منها مقيم بصورة غير شرعية (1 .11 مليون عامل) يستخدمهم القطاع الخاص الأمريكي بأجور بخسة وبساعات عمل طويلة قبالة وجود بطالة سافرة بلغ معدلها رقماً مقلقاً للنظام الاقتصادي والسياسي في شهر نوفمبر الماضي (نوفمبر 2012) وهو 12 مليون عاطل، بنسبة تبلغ 7 .7% من إجمالي قوة العمل الأمريكية، مرتفعاً عن المتوسط البالغ 8 .5% .
هنا لم يعد من الحكمة ترك الأمر رهينة لقوى السوق باسم مبدأ حرية الأسواق (دعه يعمل دعه يمر – آدم سميث) بعد أن أصبحت المشكلة مصدراً لعدم الاستقرار الاقتصادي وبالتبعية الاستقرار الاجتماعي . فلا بد من تدخل الدولة لتقليل الأضرار التي خلّفتها قوى السوق على الميزان الاقتصادي والاجتماعي للبلاد . فقد أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما الخميس 8 سبتمبر/ أيلول 2011 خطة إدارته للتوظيف التي قال حينها إنها “سوف توجه “رجة كهربائية” للاقتصاد الأمريكي الذي تقهقر، وستُعطِي الثقة للشركات التي في حال استثمرت ووظفت فسيكون هناك زبائن لإنتاجها ولخدماتها” . وناشد الرئيس أوباما يومها أعضاء الكونغرس تبني تلك الخطة فورا . وقد بلغت كلفة تنفيذها 447 مليار دولار، منها 240 ملياراً تتعلق بتخفيض الضرائب وتخفيف الأعباء من أجل تنشيط التوظيف في الولايات المتحدة .
وقد نصت الخطة التي وُضعت تحت عنوان “قانون الوظائف الأمريكي” على تخفيض نصف الأعباء الاجتماعية لكل العمال الأمريكيين واتخاذ إجراءات لمصلحة العاطلين عن العمل وكذلك طرح استثمارات في البنى التحتية من أجل تنشيط العمل . حيث تقرر، كما أوضح الرئيس أوباما حينها، أن يتم تمويل كل بند في هذه الخطة من أجل توفير فرص العمل وخفض العجز في الميزانية في آنٍ واحد . وبموازاة ذلك، ومن أجل توفير الدعم لهذه الخطة فقد ناشد الرئيس أوباما أعضاء الكونغرس إزالة العراقيل أمام الاتفاقات التجارية التي تسهل، في حال تمريرها، للشركات الأمريكية بيع منتجاتها في بنما وكولومبيا وكوريا الجنوبية .
وماذا بعد؟ ماذا بعد أن تستنفد هذه الخطة طاقتها على إضافة سعة جديدة في سوق العمل الأمريكي لاستيعاب المتدفقين الجدد من الأمريكيين سنوياً على السوق؟ ربما ستقوم الإدارة نفسها أو الإدارة التي تخلفها بالتقدم بخطة أخرى جديدة أو برنامج استنهاضي جديد لمرافق بنية أساسية إحلالية أو جديدة للإبقاء على الحد المعقول من دينامية السوق في إيجاد الشواغر الوظيفية الجديدة .
هذه الإجراءات المضادة للآثار السلبية الناتجة عن الارتفاع الطبيعي وغير الطبيعي (الناجم عن تسربات السوق الموازي أو السوق الأسود لقوة العمل الأجنبية)، لمعروض قوة العمل في السوق، لها مردودها بطبيعة الحال في التخفيف من تلك الآثار، ولكنه مردود يبقى محدوداً بمحدودية طبيعة رد الفعل، وليس الفعل، على مصدر مشكلة تزايد الضغط على قوة العمل الوطنية الأمريكية، خصوصاً في أوقات انحسار نمو إجمالي الناتج المحلي، وهو هنا العمالة الأجنبية غير الشرعية أساساً التي يجري تهريبها عبر المنافذ الحدودية للولايات الأمريكية بتواطؤ عديد الجهات لمصلحة قطاعات الأعمال الأمريكية التي تسير أعمالها اعتماداً على العمالة الرخيصة المستجلَبة من وراء الحدود .
فهذا النموذج الاقتصادي الأمريكي، لم تعد جدواه الاقتصادية مبررة للاقتصاد الوطني، من حيث القيمة المضافة ومن حيث الاستدامة، وإن بقيت مفيدة لبعض قطاعات الأعمال المدمنة عليها، وذلك بعد أن غدا النمو عزيزاً وبعد أن غدت العمالة الوطنية تفيض عن حاجة سوق العمل بهيكليته المشوهة . وكما صار معلوماً فإن هذه القضية باتت معقدة للغاية لدرجة عدم تصور إمكانية حلحلتها من دون الاصطدام بقاعدة عريضة من المصالح وأصحاب المصالح الذين صار مصيرهم ومصير أعمالهم مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهذا النموذج الاقتصادي ومكونه اللصيق . . قوة العمل الأجنبية الرخيصة التي يوفرها السوق بمرونة بالغة . ولا يبدو أن أحداً داخل أوساط الطبقة السياسية والنظام السياسي الأمريكي يرغب في التعرض لهذه المعادلة المختلة لسوق العمل الأمريكي . الأمر الذي يعني أن هذه المشكلة ستبقى تطفو على سطح الأحداث الاقتصادية حين يكون الاقتصاد في حالة جزر ينكشف خلالها فائض العمالة، وخصوصاً منها العمالة غير الشرعية، وتخبو حين يرتد الاقتصاد إلى حالته الانتعاشية .