حفزتني ملاحظة لأحد الباحثين من دول المغرب العربي إلى عقد مقارنة بين نمطين للمعيشة، أحدهما هو الذي أورد الباحث ملاحظته عليه، والثاني هو السائد في بلداننا الخليجية .
درس هذا الباحث بعناية علاقة المهاجرين المغاربة في فرنسا بقطع الغيار التي يجلبونها من فرنسا ومن البلدان الأوروبية التي يعملون فيها، ملاحظاً أن هذه القطع تسهم في إطالة أمد السلع المعمرة كالسيارات وأجهزة التلفزيون والراديو والثلاجات والغسالات وسواها، وملاحظاً أيضاً أن هذه السلع غالباً ما تتجاوز لدى المستهلك في بلدان المغرب العربي عمرها الافتراضي بكثير، بسبب هذا الولع الذي ينم عن فطنة في تغيير أي قطعة تتلف بقطعة أخرى قد تكون هي الأخرى مستعملة .
ستجد نمطاً نقيضاً في علاقة المستهلك الخليجي بالسلع المشابهة في مجتمعاتنا هنا، حيث يجري استبدال هذه السلع، خاصة تلك التي تتعلق بالمظاهر أو الوجاهة الخارجية، كل بضع سنوات وأحياناً كل سنة، ويتجلى ذلك في علاقة أفراد الفئات الميسورة والمتوسطة مع سلع كالسيارات مثلاً، أو مع التلفونات النقالة جرياً وراء آخر موديل .
يلفت نظر أي باحث في تحولات مجتمعات دول الخليج العربية الاجتياح الهائل للتكنولوجيا المعاصرة سواء منها تلك المنتجة في الغرب أو في بلدان جنوب شرقي آسيا . إن أسواق بلدان المنطقة تعج بآخر المكتشفات والاختراعات والأجهزة الإلكترونية، وهنا بالذات تتبدى صنمية السلعة أكثر مما تتبدى عليه في أي منطقة عربية أخرى . ويبدو أن أعين المنتجين في البلدان المنتجة معقودة على أسواق بلدان هذه المنطقة بسبب معرفتهم بحمى الاستهلاك، وسيكولوجيا البذخ والمظاهر التي تخترق عصب المجتمع .
حتى الآن ثمة خلط في التعاطي مع قضية التكنولوجيا لا ينجو منه الكثيرون، فالسائد أنها مجرد مسألة تقنية، فنية، عملية ومحايدة ليست سيئة وليست بالضرورة جيدة، وأن الأمر يتعلق بالطريقة التي تستخدم بها هذه التكنولوجيا ولأية أغراض . لكن إذا ما تجاوزنا حقيقة أن هذه التقنية هي نتاج تطور مديد لمجتمعات أخرى، فإننا لا نستطيع الموافقة على حياديتها .
التكنولوجيا إذ تدخل مجتمعاً فإنها تغيره، إما ببطء وإما بسرعة تبعاً لملابسات هذا الدخول، وهي قد تكون حافزاً إلى التطور باكتساب شروط هذا التطور عبر تملك هذه التكنولوجيا معرفة واستخداماً وإنتاجاً، وقد تكون باعثاً على الترهل والاستلاب والانغماس في لذة المظاهر، بتحويل السلعة إلى صنم جديد يلاحق الناس في صحوهم والمنام .