المنشور

إخفاق «الداخلية»… من شراكة المجتمع إلى الوضع الحالي

«الدفاع عن الوطن أخطر من أن يترك للعسكريين، وأمن الوطن أخطر من أن يترك للأمنيين» (جون. إف. كنيدي، الرئيس الأميركي الأسبق).

في العام 2002 كما أعتقد، عقد في البحرين ولأول مرة مؤتمر اتحاد الشرطة العالمي. في ذلك العام ولمّا تزل الآمال في الإصلاح قائمة، دعيت «الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان» لحضور المؤتمر الذي شاركت فيه وفود من العديد من البلدان العربية والأجنبية، الأعضاء في اتحاد الشرطة العالمي، والذي عقد تحت شعار «شرطة المجتمع في خدمة المجتمع».

وقدمت بعض الوفود قصص تجاربها الناجحة في تطبيق «الشرطة من أجل المجتمع»، مثل اليابان وأستراليا والدنمارك والأرجنتين. وسردوا قصصاً مؤثرةً لدور الشرطة في خدمة مجتمعها، ما يجعل الشرطي محل محبة وتقدير من قبل المجتمع.

في هذا المؤتمر نوقش أيضاً دور الشرطة في البحرين، والتاريخ المرير عن علاقة الشرطي بالمجتمع، وكانت الأجواء حينها مناسبة للتفهم على الأٌقل. وبعد ذلك المؤتمر تغيّر الوزير القديم وأتى الوزير الحالي الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، رئيس هيئة الأركان بقوة دفاع البحرين.

ورغم حساسية المجتمعات العربية من العسكريين، فقد كانت الطروحات في البداية مشجّعة، في زيارات الوزير إلى بعض القرى التي عانت طويلاً من القمع على يد الشرطة، ومنها قرية السنابس، حيث كان لقاءً صريحاً من القلب إلى القلب، وقدّم فيه الوزير وعوداً بالتغيير.

ثم جاء تشكيل شرطة المجتمع واعداً بتحوّل في عقيدة الشرطة في تعاملها مع المجتمع. وما هو مهمٌ استدراكه في مؤتمر اتحاد الشرطة العالمي، قول المسئول الأرجنتيني في ضوء تجربة بلاده، للانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية «يجب على الدولة أن لا تورط الشرطة في النزاعات السياسية أو الاجتماعية (أي اضرابات العمال وغيرها) فذلك يحرف الشرطة عن مهامها في خدمة المجتمع، ويفقدها استقلاليتها ونزاهتها ومصداقيتها لأنه يحوّلها إلى أداة قمعية ضد المجتمع».

وفي إطار ما كان يبدو كأنه عملية تحوّل في عقيدة وبنية قوات الأمن، جرى تغيير المظهر، فاستبدلت ألوان سيارات الشرطة من الأزرق الغامق إلى الأبيض فالأزرق أو الأحمر، وجرى استبدال ملابس الشرطة البنية الغامقة بأخرى فاتحة، وجرى اختيار ملابس جذابة للشرطة.

كما جرى أيضاً توظيف العديد من النساء في سلك الشرطة، وأضحين في مختلف المواقع، من الهجرة والجوازات وشرطة المجتمع، وحتى في قوات مكافحة الشغب.

وعلى صعيد الهيكلية، جرت إعادة بنية وزارة الداخلية فأضحت هناك الدائرة القانونية، ولجنة حقوق الإنسان، والمفتش العام للشرطة.

وبالنسبة للعلاقة مع المجتمع فقد جرى استحداث نظام المحافظين، ليكونوا حلقة وصل بين وزارة الداخلية والمواطنين، وتم الترتيب من خلالهم للقاءات بين قيادات وزارة الداخلية والمواطنين.

وفي بادرةٍ عوّلنا عليها كثيراً، جرى اجتماعٌ مطوّلٌ بين سعادة وزير الداخلية والجمعية البحرينية لحقوق الإنسان لفتح صفحةٍ من التعاون بين الوزارة والمجتمع المدني. كان لقاء مصارحة يبشّر بلقاءات أخرى وتعاون مثمر. وكانت البادرة زيارةً تفقديةً لوفد الجمعية لسجن جو المركزي، لكن ما كان يجرى تحت السطح مختلف تماماً. فلم تفتح الداخلية الانتساب إليها لنصف المجتمع المستبعد من السلك العسكري والأمني، بل ظلّت تركيبتها أحادية. كما أن التوسع في تجنيد أبناء الجنسيات الأخرى، كان نذيراً بتوجه خطير للدولة وأجهزتها الأمنية، وهكذا أصبح اللقاء الأول هو اللقاء الأخير.

القلعة التي تحتضن وزارة الداخلية، والتي ظلّت ترمز لعقودٍ إلى حاجزٍ نفسي بين المواطنين ووزارة الداخلية، ارتفعت أسوارها بدل أن تزال، وبسرعة فائقة جرى استحداث منشآت ضخمة. أما السجون غير الرسمية والتي أغلقت مثل سجن الحوض الجاف، فقد أعيد فتحها. وما أن انتهى العام 2006، إلا وقد أكلت الحياة السياسية دورتها، وعدنا للمربع الأول للمواجهة ما بين الدولة والمجتمع. ومرةً أخرى أضحت وزارة الداخلية العصا الغليظة التي تضرب بها الدولة المعارضة والمجتمع، وعادت قوات مكافحة الشغب إلى الشوارع والقرى والأحياء السكنية لتزرع الرعب والخوف، وعادت زنازين الظلام تستقبل أفواجاً تلو أفواجٍ من المواطنين المحتجين على سياسات الإفقار والتهميش والتمييز والإذلال. أما التعذيب الذي اعتقدنا أنه اختفى إلى الأبد، فقد عاد بشكل أكثر ضراوةً.

لكن المفارقة هو أن الدولة، وفي محاولةٍ منها لتسويق مشروعها الإصلاحي وتزويق صورتها أمام العالم الخارجي، كدولة ديمقراطية ليبرالية، عمدت إلى التوقيع على مزيدٍ من اتفاقيات التعاون مع الدول والمنظمات الحقوقية الدولية، لتدريب منتسبي الأمن على حقوق الإنسان، والتعامل مع المعتقلين وغيره، لكن ذلك لم يكن ضمن توجه فعلي ومخلص لإعادة تأهيل ضباط وزارة الداخلية على حقوق الإنسان، واحترام المواطن، وسيادة القانون الإنساني، ولذا لم يُحدث ذلك أيّ تغييرٍ في نهج وزارة الداخلية ومنتسبيها، واستمرت العلاقة بين وزارة الداخلية والمجتمع في تدهور، واتسعت الفجوة بين الوزارة والمواطن.

لم تنفع حملات العلاقات العامة، من خلال مختلف وسائط الإعلام للترويج لشعار «أمنك يهمنا» أو «شهر من أجلك»، لم تعد شاخصات الشوارع ولا الاستعراضات، مقنعةً للمواطن الذي أضحى عرضةً للقمع والملاحقة. ألا تدرك قيادة وزارة الداخلية ذلك؟ أن البلاد في حالة طوارئ فعلية؟ ألا تدرك أنه عندما يتسلح حتى شرطة المرور، فإن الخوف من المواطن بلغ أقصاه وخوف المواطن بلغ مداه؟ ألا تدرك أن مرابطة قوات الأمن على مداخل القرى والأحياء السكنية وعلى امتداد الشوارع.

عبدالنبي العكري
صحيفة الوسط البحرينية