مثل
مصر، أمريكا منقسمة إلى نصفين . . بأكثر من النصف قليلاً رجح الناخبون
الأمريكيون كفة الرئيس باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية التي جرت في
السادس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي . ولكن الجمهوريين احتفظوا مع ذلك
بأغلبيتهم المريحة في مجلس النواب، وهو ما صعب مهمة الرئيس باراك أوباما
إبرام ما سمي باتفاق خفض عجز الموازنة مع الجمهوريين قبل انتهاء عام 2012 .
وتمثلت تلك الصعوبة في أن الاتفاق يعكس من جهة رؤية الرئيس أوباما بأن يتم
تحميل الأثرياء والأفراد والأسر الأعلى دخلاً عبئاً ضريبياً متناسباً مع
حصتهم المفترضة في الجباية الضريبية وتقليل هذا العبء من على كاهل الطبقة
الوسطى، ومن جهة ثانية رؤية الجمهوريين الذين يعكسون مصالح الأثرياء ورأس
المال الكبير . أما عدم حصول اتفاق بين الطرفين فكان يعني أوتوماتيكياً
إنفاذ حزمة من الإجراءات بصورة آلية تتضمن رفعاً سنوياً للضريبة على
الأمريكيين يعادل 500 مليار دولار واقتطاعات كبيرة في مستوى الإنفاق
الحكومي بما يؤثر سلباً في جملة من الالتزامات التعاقدية الحكومية مع
القطاع الخاص ويعيد الاقتصاد إلى دوامة الركود .
والغريب
أن الجمهوريين الذين مازالوا يبدون أوفياء للعقيدة النيوليبرالية
الاقتصادية المتطرفة في نظرتها المنحازة لقطاعات الأعمال العملاقة، ظلوا
متمسكين بموقفهم في المفاوضات مع الديمقراطيين وزعيمهم الرئيس أوباما حتى
آخر لحظة قبل الوقوع في الهاوية المالية المشار إليها، وذلك على الرغم من
استطلاعات الرأي التي أظهرت أن 70% من الأمريكيين يؤيدون موقف الرئيس
القاضي بأن يدفع أصحاب الدخول ضرائب أكثر وعدم تحميل الطبقة الوسطى أية
ضرائب .
وكما
ذهبت أغلب التوقعات من أن الطرفين يخشيان عواقب الهزة الارتدادية لوقوع
البلاد في الهاوية المالية، فقد توصلا إلى اتفاق في الساعات الأخيرة التي
سبقت انتهاء المهلة الممنوحة لهما قبل دخول “الخطة ب “
Plan B
”
المميتة” حيز التنفيذ . وكما كان متوقعاً فقد جاء الاتفاق مخيباً للآمال
من حيث تراجع أوباما عن أحد أهم نقاط برنامج حزبه لمعالجة العجز المالي
الفلكي للبلاد، وذلك بالموافقة على طلب الجمهوريين رفع سقف المداخيل الذي
يبدأ عنده فرض الضريبة التصاعدية من ربع مليون دولار سنوياً إلى 400 ألف
دولار سنوياً .
ما
جرى الاتفاق عليه لا يعدو أن يكون حلاً جزئياً وتأجيلاً مؤقتاً لملاقاة
أولى أكبر استحقاقات العجز المالي والدين العام الهائلين . حيث شمل الاتفاق
رفع نسبة الضريبة على مرتبات معظم العاملين الأمريكيين بواقع 2% بعد أن
كانوا نعموا لمدة عامين بهذا الإعفاء لتحفيز الاقتصاد . كما اتفق على زيادة
الضريبة على نسبة ال 1% من أكثر الأمريكيين دخلاً ابتداءً من سقف 000 .400
دولار سنوياً للأفراد و450 ألف دولار سنوياً للعائلة لتصل إلى 6 .39%
ارتفاعاً من 35% .
كما
سيتم رفع الضريبة على الأمريكيين الأكثر ثراءً، حيث سترتفع الضريبة على
عائداتهم الاستثمارية من 15% إلى 20%، والضريبة على العقارات التي تزيد
قيمتها عن 5 ملايين دولار من 35% إلى 40% . وتم تمديد الإعفاء الضريبي
للعائلات التي تعيل أطفالاً، وطلاب الجامعات والعمال ذوي الأجور المنخفضة،
لخمس سنوات أخرى، وتمديد نفس الإعفاء لمجموعة من قطاع الأعمال لمدة سنة
واحدة وبصفة مؤقتة . وتم تمديد العمل بإعانات البطالة لمدة سنة إضافية
واحدة للعاطلين عن العمل لمدة لا تقل عن ستة أشهر وعددهم 2 مليون عاطل .
الأخطر
من ذلك أن الحكومة الأمريكية اعتباراً من الاثنين 31 ديسمبر/كانون الأول
2012 قد تجاوزت سقف الاقتراض المسموح به قانوناً وهو 4 .16 تريليون دولار
(تقترض 31 سنتاً من كل دولار واحد تنفقه)، ولولا أن وزارة الخزانة
الأمريكية تعتمد أساليب محاسبية استثنائية خاصة لوقع الإعسار المالي الذي
تعجز بموجبه الحكومة عن سداد أقساط وفوائد الدين العام المستحق عليها . ومع
ذلك فإن هذه الإجراءات الاستثنائية لا يمكن أن تطول إلى ما بعد نهاية
فبراير/شباط المقبل، إذ لابد للكونغرس من أن يتفق على رفع سقف الاقتراض إلى
الضعف لكي يمكن الحكومة الفدرالية من مواصلة “إدمانها” الاقتراضي لتمويل
إنفاقها، الجاري أساساً .
لقد
كانت “الهاوية المالية”، “حيلة” تحفيزية مبتكرة لمحاولة شحذ همم الحزبين
الحاكمين الديمقراطي والجمهوري للتحرك سريعاً وجدياً لوقف تواتر تبعات تضخم
الدين العام الذي يتغذى على عجز الموازنة العامة البالغ تريليون دولار .
إلا انهما اختارا تأجيل البت الجذري فيها إلى ما بعد شهرين . . إلى مطلع
مارس/آذار المقبل، وهي فترة لأسواق المال العالمية لالتقاط أنفاسها بعد أن
حبستها التكهنات المزعجة لما بعد الوقوع في محاذير الهاوية المالية .