نحن لسنا من الجمعيات السياسية، ولسنا من الموالين للسلطات، نحترم الرأي والرأي الآخر وحرية التعبير، نصون كرامة الإنسان، ديدننا العدل والمساواة.
عاصر شباب الجيل السابق أواخر عهد قانون أمن الدولة (أغسطس/ آب 1975) السيئ سياسياً واجتماعياً، والذي عاد بالوطن القهقرى على كل الأصعدة، فاستشرى فساداً في السلطات لم يرَه الناس، عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، لا بالصورة ولا بالصوت، بل استشعروه من خلال المنشورات السياسية المطبوعة على أوراق الحرير «الإستنسل» ومن ثم نسخها على الورق، التي كان توزيعها يتم في ظلام الليل الدامس من قبل أفراد المعارضة السياسية عبر التسليم الحذر باليد، ليصبح موضوعها أحاديث يتناقلها الناس ليلاً ونهاراً في تجوالهم الحياتي.
كما عاصر معظم شباب اليوم أحداث التسعينات، التي سبقت وأفرزت مرحلة ميثاق العمل الوطني، ودستور 2002، أما أجيال ما قبل الخمسينات فقد عاصروا أحداث 1954-1956، ومواليد الخمسينات عاصروا يفاعة أحداث الستينات 1962-1968 وما تلاها من تاريخ البحرين السياسي، إلى أحداث 14 فبراير/ شباط 2011 وإفرازاتها إلى اليوم.
هذه الفترة السياسية التي امتدت لأكثر من نصف قرن، 59 عاماً، تحوّلت فيها الموروثات السياسية الشعبية، في تقسيم المجتمع من (الشيوخ) ويتبعهم المخابرات، (لوصف المخابرات وقوات الأمن والعسكر) في جانب والشعب وقياداته من المعارضة في جانبها الآخر، لتصل بنا الحال في يومنا إلى تسميات السلطة الحاكمة وقوات الأمن… إلخ، وتقسيم الشعب إلى المعارضة والموالاة، فقبلها لم يكن هناك موالون بل هناك مخبرون مكروهون ومزدرون شعبياً.
ففي كل تلك الأحداث السياسية، لم يكن هناك انسجام بين السلطة والشعب، بل استخدمت السلطات أجهزتها النظامية من أمن وعسكر ومخابرات، لتلوي ذراع الشعب قسراً عبر التصدي العنيف والاعتقال والنفي خارج الوطن، في الخمسينات والستينات، ربما بسبب الانتداب البريطاني، أما في أحداث السبعينات وما تلاها، من بعد الاستقلال، فقد عمدت السلطات إلى قهر الشعب عبر القتل في المعتقلات جراء التعذيب، وأتبعتها بالعنف القانوني المنفرد المصدر في التصدي لكل مطالباته، بدءاً بقانون أمن الدولة، الذي سنّته ومنحت به وزير الداخلية السابق، حق اعتقال أي كان حسب ما يرى أنه خطر على السلطة، وإبقاءه في المعتقل لثلاث سنوات، مع تجديد الحبس كل ستة شهور، عبر القضاء، الذي عجز عن إطلاق سراح أي معتقل، بل أبقت السلطات بعضهم لما يقارب الأربع سنوات، دون محاكمات أصولية، وعبر تجاوزاتها لقوانينها، وكان ذلك من بعد انفراد السلطة آنذاك بتعطيل مواد دستور 1973، التي تقف حجر عثرة أمام إجراءات السلطة الآنفة، ما عطّل الحياة النيابية أكثر من ربع قرن، 27 عاماً، مورست فيها شتى أنواع القهر للشعب، من اعتقال وسحب جنسيات وتشريد خارج الوطن، وتعذيب اُستشهد تحت وطأته عدد من الشهداء، عوضاً عن القتل في حراكات الشارع.
وقد امتدت هذه الأحداث إلى التسعينات، التي امتازت بردّات الفعل الشعبية العنيفة بعض الشيء، مقابل عنف السلطات التي أودت بحياة عدد من الشهداء.
هذه الأحداث التي أثارها التمييز الفاقع ضد فئات من الشعب مقابل فئة أخرى، مِن مَن بدأ يتشكل من الموالاة، التي أسبغت عليها السلطات العطايا من فتات ثروات الوطن. على إثرها في عام 2001، وعبر الضغوط الشعبية والدولية، التي أتت على جميع عوامل الاستقرار سواء، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، من بعد الفشل الذريع للعلاج الأمني الذي امتد سنوات، أعلن آنذاك عن ميثاق العمل الوطني، الذي حاز في التصويت الشعبي عليه، موافقة 98.4 في المئية من الشعب بكل طوائفه، (تكرار لما تم في عام 1970 من التأكيد الشعبي على عروبة البحرين واستقلالها كدولة، ضد مطالبة إيران بالولاية عليها، من قبل كل طوائف الشعب)، وذلك نتيجة تواصل الأمير المباشر مع المعارضة في السجون والمنافي، وكان حينها لدينا دستور 1973، ومعمول بجميع مواده، عدا ما تم تجميده بصورة منفردة من مواد تتعلق بالسلطة التشريعية (المجلس الوطني)، وإعادة انتخابها شعبياً، في حال تم حلها لسبب من الأسباب، فلم تكن البحرين في حاجة لسن دستور جديد، بل إجراء التعديلات اللازمة على الدستور القائم، فهذه سمة الدساتير في الاستمرارية وإجراء ما يلزم بتعديل بعض موادها، إلا أن السلطات لم تتغير نواياها وحِيَلها، فأتت بمستشار دستوري (رمزي الشاعر)، الذي تستند الدول إلى إفتاءاته الدستورية، وهو القائل في أحد كتبه في القانون الدستوري، ما يعني أن الدساتير تستمد شرعية إصدارها وتعديلاتها، بإحدى طريقتين، أما عبر الانتخاب الشعبي لمجلس دستوري (تأسيسي) يصوغ الدستور ويعتمده، وإما أن تصيغ مسودته الحكومات وتستفتي الشعب عليه بالموافقة أو الرفض، ولا ثالث لهاتين الوسيلتين، إلا أنه في مشورته لحكومة البحرين، إزاء دستور 2002، نقض المبدأ الدستوري، وأقر إصدار دستور جديد ودون الاستفتاء الشعبي عليه، ولا أدري كم تكلفت ثروتنا الوطنية جراء ذلك، فمخالفة مستشار دستوري دولي لمعتقداته وضميره الحقوقي، أمر لا يستهان به.
فجاء دستور 2002، ببعض النصوص الحقوقية والدستورية كما كانت في دستور 1973، مع بعض التطويرات فيما يخص مفردة المواطنين بإشراك الذكور والإناث نصاً، وغلبت على نصوصه الكفالة لحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، والتظاهر وإنشاء النقابات والتجمعات السياسية إلخ، إلا أن السلطات، حين دقت ساعة أحداث 14 فبراير 2011، لم تمهلها إلا شهراً أيقنت خلاله، من سلمية الحراك ووطنيته، وعدم امتلاك جماعات الحراك الشعبي للسلاح، وأنها أي السلطات باتت تواجه غالبية الشعب، في المطالب التي نص عليها الدستور، فحدث ما حدث من قتل واعتقالات وفصل جماعي من العمل، والعقاب الجماعي للتجمعات السكنية، بنيَّة العودة بالمجتمع إلى ما قبل الميثاق، في هجمة شرسة كانت ستأكل الأخضر واليابس، لولا صمود المحتجين، والضغوط الدولية التي رأت رأي العين ما وثقه الحراك الشعبي باستخدامات وسائل التواصل الاجتماعي، من تعديات على دستور الدولة، وعلى حقوق الإنسان الأساسية، وما مارسته أجهزة السلطة بخلط في فرديتها وسياسات الإفلات من العقاب، مقابل العقوبات في أقصاها على المعارضين، ما يتبدى جلياً تحلل السلطة وتبعثرها بإدارات فردية وغياب الإدارة المؤسسية، حيث ساد النفوذ الفردي، ما يجعل العقد الاجتماعي الوطني عرضة للانهيار. وتبدأ الهوة بين السلطة والشعب تتسع.
صحيفة الوسط البحرينية