قلنا ذات مرة، في مقال سابق في شأن «ما يجب أن تكون عليه هوية القائمين
على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها»، أنه يتوجب أن تتوافر في هؤلاء ثلاث
مميزات على الأقل، وهي: (أولاًً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة
بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط
بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو
الإقامة الطويلة.
وحيث صدر قانون العمل الجديد رقم (36) لسنة 2012
المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 أغسطس/ آب 2012 في العدد 3063 والذي
تصدرت بداية وزارة العمل بمفردها لإعداد مسودته واقتراح نصوصه منذ عام 2001
ثم انتهى الأمر إلى إصداره بنصوصه الحالية، فأُلغي بموجبه قانون العمل
القديم رقم (23) لسنة 1976 قانون رقم (14) لسنة 1993.
وبمراجعة
القانون الجديد أوقفتنا العديد من نصوصه التي تحيط بها الكثير من المآخذ،
سواءً من حيث الشكل أو الصياغة أو المضمون، التي لم نكن نتوقعها مطلقاً،
وخاصةً أن ولادة هذا القانون جاءت بعد حملٍ دام إحدى عشرة سنة يفترض أن
يكون حسن الخلقة مكتملاً غير مشوه.
وعلى رغم أن هذا القانون تضمن
بعضاً من النصوص لصالح المرأة العاملة، إلاّ أن هذه النصوص لا تعدو سوى
نقاط صغيرة بيضاء في وسط دائرة كبيرة سوداء كاتمة، ما يجعلنا نخرج بمحصلة
نهائية أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.
ولكي
لا نطيل في المقدمة نبدأ في الولوج في نصوص هذا القانون ونختار بعضاً من
نصوصه ضمن دائرته السوداء، لنعقب عليها مادةً تلو الأخرى بالتعليق عليها في
حلقات متسلسلة ومتتابعة نبدأها في هذه الحلقة، بما تنص عليه الفقرة
الثانية من المادة الرابعة على أن «يستمر العمل بأية مزايا أو شروط أفضل
تكون مقررة أو تقرر في عقود العمل الفردية أو الجماعية أو أنظمة العمل
بالمنشأة أو غيرها أو بموجب العرف».
هذا النص، رغم ركاكته وسوء
صياغته بشكل لا يليق أن يكون نصاً في القانون، بحيث يظهر أن من قام بصياغته
غير محيط بأبعاد القاعدة القانونية ولا يحسن صياغتها، فقد جاء – علاوة على
ذلك – مغايراً لنص قانوني يقابله في المادة رقم (153) من قانون العمل
الملغى لسنة 1976 التي ورد فيها النص التالي: «ولا يجوز المساس بما اكتسبه
العامل من حقوق بمقتضى أية اتفاقية أو لوائح النظم الأساسية أو قرارات
التحكيم أو ما جرى العرف أو اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».
وبمقارنة
النصين السابقين نلحظ أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 وقف موقفاً سلبياً
في غير صالح العمال، وهذا الموقف السلبي سندرك لاحقاً كم هو ضار للغاية،
وذلك للأسباب التالية:
أولاً: كان يفترض أن يؤكد النص سابق الذكر
بعبارة واضحة لا تحتمل التأويل وبقاعدة آمرة على «عدم المساس بما اكتسبه
العمال من حقوق» على النحو الذي جاء في نص المادة رقم (153) من قانون العمل
السابق لسنة 1976. وهو ما خلا منه نص المادة الرابعة من قانون العمل
الجديد.
ثانياً: من المقرر – طبقاً لما نصت عليه معظم القوانين
والاتفاقيات العمالية الدولية – أن الحقوق العمالية تكتسب بمقتضى إحدى
المصادر التالية: القانون، أو عقد العمل، أو لوائح الأنظمة الأساسية
للمنشأة، أو قرارات التحكيم، أو العرف، أو ما اعتاد صاحب العمل على منحه
للعمال.
وهذه المصادر الستة نص عليها قانون العمل القديم على نحو ما
تقدّم، تضفي على الحقوق العمالية صفة الحق المكتسب، بحيث يستطيع العامل
بمقتضى أي واحد من هذه المصادر أن يطالب بالحق بصفته حقاً مكتسباً، ومن بين
هذه المصادر كما ذكرنا «ما قد اعتاد صاحب العمل على منحه له بصورة
منتظمة».
بيد أننا لو قمنا بمقارنة نص المادة رقم (153) من قانون
العمل الملغى لسنة 1976 ونص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد سابق
الذكر لوجدنا أن هذا الأخير قد حذف مصدراً مهماً من مصادر الحق وهو «ما
اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».
فلو افترضنا مثلاً أن بنكاً من
البنوك قد اعتاد على أن يصرف لموظفيه أو لبعض منهم أجر شهرٍ إضافي بنهاية
كل عام ميلادي (وهو ما يطلق عليه أجر الثالث عشر) وكان هذا الاعتياد غير
مبني على اتفاق صريح في عقد العمل، فإن هذا الاعتياد بمقتضى قانون العمل
القديم يصبح حقاً مكتسباً للموظفين لا يستطيع البنك المساس به، من حيث أنه
جاء بمقتضى قاعدة قانونية آمرة. في حين أن قانون العمل الجديد حذف عبارة
«ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال» ما يعني أنه حذف مصدراً من مصادر
الحق آنفة الذكر، وبالتالي يستطيع البنك في مثل الحالة المشار إليها أن
يلغي صرف الراتب الثالث عشر مهما طالت مدة اعتياده على صرفه لموظفيه، ولن
يكون ملزماً به كحق مكتسب بحكم القانون الجديد.
لذلك وبناءً على ما
تقدّم نكون قد وقفنا على سوأة من مساوئ قانون العمل الجديد، وسنقف بالتتابع
على باقي هذه المساوئ في الحلقات المقبلة.
في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم
(36)
لسنة 2012 أشرنا في الحلقة الأولى إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على
إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة
القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها.
(وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.
ووقفنا
في الحلقة السابقة على نص الفقرة الثانية من المادة الرابعة من القانون
المذكور، والتي من خلالها أثبتنا سوء صياغة هذا النص بما يوحي أن القائمين
على إعداد مسودة القانون المذكور يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها،
فضلاً عن كون النص المشار إليه جاء في غير صالح العمال، وكأن المشرِّع قد
أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال استناداً للأسباب التي وقفنا عليها.
وفي
هذه الحلقة سنقف على جانب من نصوص القانون المذكور لنثبت من خلاله مجدداً
صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته.
وذلك فيما يلي:
أولاً:
في المادة العاشرة من المرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993 الذي ألغاه قانون
العمل الجديد، جاء النص التالي: «على وزارة العمل ترشيح المقيدين لديها
للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم الفنية…». هذا
النص يحمل مضموناً سن بموجبه إجراءً قانونياً ملزماً التزمت به وزارة العمل
طيلة السنوات الماضية، وهو ترشيح العاطلين المقيدين لديها للوظائف
والأعمال التي تناسبهم. غير أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 خلا من هذا
النص تماماً، ما يعني أن المشرِّع رفع هذا الالتزام عن كاهل وزارة العمل.
وبإلغاء
هذا الإجراء أصبحت وزارة العمل بمنأى عن أي التزام قانوني يلزمها بترشيح
العاطلين المقيدين لديها ومتابعة تشغيلهم على نحو ما كانت عليه في الماضي،
ليبقى التزامها محصوراً في قيد العاطلين، أو بالتنسيق مع جهات – لم يحددها
القانون – لغرض توظيفهم طبقاً لما جاء في نص المادة التاسعة من قانون العمل
الجديد.
و»الترشيح» المشار إليه لا يجوز تبسيط مفهومه ومضمونه ليوصف
– بحسب ما يراه بعض المسئولين الجدد بوزارة العمل – بأنه مجرد اقتراح أو
تنسيق لتوظيف العاطلين، إذ أنه بهذا التوصيف ننتهي إلى اجتزاء طبيعة
الترشيح.
إنما هو في الحقيقة نظام يحمل في طياته توصية، أو ما يشبه
بالأمر الإداري، في إطار خطة «بحرنة الوظائف» التي تخلت عنها وزارة العمل
تدريجياً حتى أصبحت في «خبر كان».
وقد لمسنا في الماضي أن ترشيح
وزارة العمل للمقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم
وكفاءتهم ومتابعة تشغيلهم وفق خطة بحرنة الوظائف كان له الأثر الملموس في
توظيف نسبة لا بأس بها من العاطلين. وبإلغاء نظام الترشيح باتت وزارة العمل
غير مسئولة عن أهم واجب وطني يفترض أن تقوم به على نحو ما كانت عليه في
الماضي، وإن قامت به إنما تقوم به تفضلاً لا بموجب التزام قانوني.
وقد
سبق أن صرح لنا أحد المسئولين بوزارة العمل خلال زيارتنا له لغرض ترشيح
أحد الخريجين الجامعيين كان عاطلاً لأكثر من ثلاث سنوات ولا يزال عاطلاً،
بقوله: «إن الوزارة غير مؤهلة لأن تُلزم أحداً بتشغيله وفقاً لمؤهلاته».
ونحن في الواقع لا نلوم هذا المسئول لما صرح به، لأنه فطن بأن لا وجود
لإلزام قانوني على هذه الوزارة بعد إلغاء النص الذي يلزمها بترشيح ذلك
المواطن العاطل وإخلاء مسئوليتها من متابعة تشغيله، وبعد تعطيل خطة «بحرنة
الوظائف» كما أشرنا.
ثانياًَ: بعد أن رأينا في الفقرة السابقة كيف
أخلى المشرِّع (بمقتضى قانون العمل الجديد) مسئولية وزارة العمل من ترشيح
العاطلين الوطنين المقيدين لديها ومن الالتزام بمتابعة تشغيلهم على نحو ما
سلف بيانه، نجده اتخذ موقفاً أشد قسوة تجاه العامل الوطني استناداً لما
يلي:
فبعد مراجعة قانون العمل الجديد نلحظ أنه ألغى المادة رقم (13)
من قانون العمل لسنة 1976 التي ألزمت صاحب العمل بوجوب منح الأفضلية للوطني
في الاستخدام، والتي جاء فيها «في حالة زيادة عدد العمال عن حاجة العمل
يجب الاستغناء عن الأجنبي قبل العربي أو الوطني، وعن العربي قبل الوطني»…
بمعنى
أنه كان يجب على صاحب العمل في حالة زيادة عدد عماله عن الحاجة أن يستبقي
على العامل الوطني ويمنحه الأفضلية في الاستخدام دون العربي والأجنبي متى
كان صالحاً لأداء العمل.
أو بمعنى آخر كان لا يجوز لصاحب العمل في
حالة زيادة عماله عن الحاجة أن يفصل العامل الوطني ولديه عامل عربي أو
أجنبي يماثله. وبإلغاء المادة
(13) المشار إليها جاز القول بأن قانون
العمل الجديد ألغى أفضلية العامل الوطني في الاستخدام على غيره من
الأجانب، فجعل العامل الوطني والأجنبي متساويين في حق الاستخدام.
وبناء
على ما تقدم في الحلقة الأولى وفيما أشرنا إليه أعلاه يثبت أن المشرِّع
بموجب قانون العمل الجديد قد أخذ موقفاً سلبياً فيه أكثر قتراً وبخلاً
وحيفاً بحق العامل الوطني.
ثالثاً: جاء في المادة رقم (12) من قانون
العمل الجديد «يجب على صاحب العمل أن يسلم العامل إيصالاً بما يودعه لدى
صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات. ويلتزم صاحب العمل بأن يرد للعامل
عند انتهاء عقد العمل ما يكون قد أودعه لدى صاحب العمل».
هذا النص
يوضح لنا بجلاء الاعوجاج المتين في الصياغة، وبما يثبت مجدداً أن الأيادي
التي صاغت نصوص قانون العمل الجديد ليست مؤهلة لذلك.
ولنا لقاءات
أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من هذا الاعوجاج في
الصياغة والتعبير والشكل، والمزيد من الحيف الذي وقع على العمال من خلال
قانون العمل الجديد. ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري
تشهده مملكة البحرين.