المنشور

هل يُحوِّلُ الحكمُ «الغاشِم» الدولةَ إلى شرٍّ مطلق؟!

من الأشياء التي يتم بحثها في العلوم الإنسانية والاجتماعية هي
السُّلطة. فقد كُتِبَ عنها الكثير، كونها إحدى أهم القيم التي تُشكلها عادة
الروابط الاجتماعية. ولأن السلطات التي سادت في العالم منذ آلاف السنين،
تنوَّعت أشكالها وصنوفها علواً وانحداراً، سواء في جوهرها البيروقراطي، أو
نظامها الأخلاقي، فإن التساؤلات حولها أيضاً توالت وتنوَّعت بشكل مستمر.

ومن
الأشياء التي دارَ حولها النقاش والدراسات، هو تفسير ما تنضَح به الدولة
من مؤسسات، عندما يكون حاكمها (أو حُكمها) غاشماً. بمعنى آخر، هو الموقف
الوطني من تلك المؤسسات، وهل هي تحظى بشرعية ما، أم أنها تتحمَّل تلقائياً
وزر «غَشْم» الحكم، فتجترُّ ما لديه من وصف، فلا تكون إلاَّ واحدة مما ينشأ
عنه، وبالتالي، فلا قيمة لها مطلقاً، كونها فاقدة للشرعية أصلاً.

والحقيقة،
أن المغالاة في ظلم الشعوب، والاستئثار بثرواتهم الوطنية، قد ساعد بشكل
كبير، في خلط المفاهيم، ما بين السلطة والدولة والوطن. وهي تعريفات تختلف
في شكلها وحجمها، وتفسيرها أيضاً. كما أن الأنظمة التسلطية، قد تعمَّدت
تركيب مفهومَيْ الدولة والوطنية، في شخص الحاكم، ليصبح الناقد والرافض له،
ناقصاً في وطنيته إن لم يكن فاقداً لها من الأساس.

هذا الخلط، وهذا
التركيب، جعل الحاكم وسلطته «الغاشمة» وموقعهما «الطارئ» في الدولة
يتشاركان، أو يتماهيان أو يتساويان في قيمة الوطن والدولة، وهو خطأ كبير،
يجب عدم القبول به. لأنه في الحقيقة، عملٌ مقصود، دَرَجَت على تثبيته أنظمة
الحكم التسلطيَّة، وفرضته على الناس، وعلى شكل الصراعات السياسية/
الاجتماعية، التي تنتج عن غياب الحكم الصالح.

وكل مراقب للأوضاع
السياسية في العالم العربي، سيجد أن هذا السلوك قائم لدى الأنظمة الفاسدة.
هي تريد أن تجعل من أجهزة الدولة المادية (كما سمَّاها ألتوسير) كالجيش
والشرطة، والأجهزة الايديولوجية كالتعليم والمؤسسات الدينية ووسائل
الإعلام، مالِكة العنف الرمزي، أشياء مملوكة للحكم وليس للدولة. ومادامت هي
للحكم، فهي بشكل آلي تابعة للحاكم!

أكثر من ذلك، فإن الأمر قد انسحب حتى إلى قضايا الخدمات المدنية، والترميزات التي عادةً ما تتشكل داخل الدول، كالأنشطة الترفيهية.

والحقيقة الثابتة هنا، أن فعل السلطة هذا لا يستقيم ومنطق الأشياء.

فالقضية
هي لَيٌّ لقيم لا يمكنها أن تكون مُلكاً إلاَّ للرابط الاجتماعي الأوسع،
الذي يأتي من قاع المجتمع بكل تنويعاته، وليس من داخل الطبقة الأوليغارشية
الحاكمة.

وبناءً على كل ذلك، فإن معركة الشعوب اليوم هي في تفكيك هذا
الخلط، المفروض عليها قسرياً، وعلى وطنيتها أيضاً. فهذا التفكيك واجب،
لأنه يحيل العام إلى الخاص وليس العكس. كما أنه يكرِّس مبدأ العدمية
السياسية، لدى شرائح كبيرة من المجتمع، حين يتعمَّد إفهامها أن هذا التركيب
الشاذ هو الذي يجب أن يسود «طبيعياً»، وأن حركتها لا تقوم إلاَّ على
إيقاعه، لأنه يريد منها أن تمارس سلوكاً سياسياً مشوّهاً نتيجة ذلك الخلط،
لضربها في الوطنية، النظرة السلبية الشاملة للدولة/ الوطن والسلطة.

صحيح
أن هذه الأنظمة تستثمر كل شيء في الدولة والوطن لصالحها. لكن ما هو أصحُّ
منه، هو أن ذلك ليس مدعاةً لأن يكون موقفنا من «مظاهر الدولة» مهووساً
باستثمار الأنظمة «الغاشمة» لها، لأنه ليس المحور، وإلاَّ ما بقِيَ لنا من
شيء إلاَّ واعتبرناه مستثمَراً من قِبَلها، وبالتالي نتوجَّس منه بما فيه
ذواتنا، التي تعمل ضمن الرباط الاجتماعي، الناسج للدولة، ونشاطها.

ما
أراه، أن الدولة ليست حيزاً محدوداً ومكانياً، بل هي مجموعة من الصور التي
تخيطها الشعوب، لذا فهي ليست مُلكاً عضوضاً لحاكمٍ حتى ولو قبض عليها
بسطوته المادية، بما فيها مؤسساتها. بل الأكثر من ذلك، هي أن العديد من
تجارب التاريخ، قد بيَّنت أن حتى المؤسسات التي لجأت الأنظمة الفاسدة على
توظيفها لخدمة الفرد/ سلطة الأقلية المتنافعة، لم تكن شراً مطلقاً أبداً،
بل إنها وفي أحيان كثيرة كان التغيير على يديها، أو على الأقل تحوُّلها إلى
رقم وازن.

كل الحركات التغييرية، التي خاصمت أنظمة الحكم، وتغلبت
عليها، لجأت إلى المؤسسات والأدوات ذاتها التي كانت بحوزة تلك الأنظمة وبكل
هياكلها وشخوصها، لأنها بالأساس وفي جوهرها ليست قيمة فردية، بقدر ما هي
«قيم دولة» تأسست على الروابط الاجتماعية، على رغم الخلط المشوَّه الذي
دأبت أنظمة الحكم على جعله ما بينها وبين شخص الحاكم، وسَفَه حكمه.

وقد
رأينا كيف أن الثورات والحركات التغييرية، وحتى الإزاحات العسكرية، عندما
فعلت العكس، وهدَّت من تلك المؤسسات، بحجة أنها كانت من مظاهر الحكم
«الغاشم» كيف أنها دفعت أكلافاً باهظة. فمن قبل، كانت تجربة روبسبيير إبان
الثورة الفرنسية. وكذلك خلال حقبة نابليون، عندما أعدم الثوار الفرنسيون
خيرة ضباط البحرية في الجيش الفرنسي بحجّة أنهم من الموالين للملكية
المنهارة، لكن النتيجة كانت أن خسائر فرنسا في حربها البحرية ضد بريطانيا
عشرة أضعاف خسائر الجيش البريطاني. أما في عصرنا الحالي، فلا أظن أن العراق
بعيدٌ عن هذا الوصف.

لقد أشارت ميريام ريفولت دالون بصراحة في بحثها
القيِّم «سلطان البدايات» إلى مفهوم المؤسسة، فاعتبرته «نتاجاً مشيَّئاً
وعصياً على تحكم الأفراد» على حدِّ وصفها. وقد ذكرت دالون ما ذهب إليه ماكس
فيبر، بربطه المؤسسة بنشاط السلوك الاجتماعي الذي أعطاها أصلاً وجودها.
هذا هو المعنى الحقيقي، الذي يجب أن ينظر إليه بجديَّة خلال أيِّ حراك
سياسي، كي لا ننجر في معمعة الخلط والتشويه، التي أرادتنا الأنظمة الغاشمة
أن ننغمس فيه بلا رحمة.

محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية