المنشور

معارك ماركسية فكرية حول قضايا راهنة ومستقبلية ؟ .

 

 

 



 




معارك ماركسية فكرية حول قضايا راهنة ومستقبلية ؟  

  





 

حوار مؤسسة الحوار المتمدن مع الأستاذ غازي الصوراني – مفكر يساري وماركسي – ومسئول الدائرة الثقافية المركزية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حول: معارك ماركسية فكرية حول قضايا راهنة ومستقبلية ؟ .

تقديم..

لن يكون الكفاح الثوري ، التحرري والديمقراطي العربي والفلسطيني مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم، ولن يكون القائد الوطني الماركسي جديراً باسمه إلا إذا كان واجبه التحريض على هذه الإرادة وخلق أشكال سياسية بلا مراتب وبلا رعية وأعيان أو محاسيب أو شلل داخل أحزاب اليسار ، بما يؤدي إلى إنتاج قيادة انتهازية رخوة عاجزة ، مرتدة وغير متجانسة ستدفع بهذا الفصيل أو الحزب إلى مزيد من التفكك والخراب .
فعندما تهترئ الأطر السياسية التي تتصدر قيادة الجماهير، يصبح رصد آفاق النضال الجماهيري، وتلمس مشاكله ضرباً من الجهد الفردي القلق، ومهمة شائكة وصعبة، وخاصة في مرحلة مضطربة وصاخبة ومعقدة كالتي نعيشها اليوم في ظل تجديد وإعادة إنتاج التبعية والتخلف وفق أدوات الليبرالية الرثة أو أدوات الإسلام السياسي.
وبالتالي فإن وحشة الجهد الفردي وقلقه- كما يقول المفكر الراحل ياسين الحافظ- لا يمكن أن يبددهما إلا الالتزام بخط الجماهير ومواكبة تحركها… كما يصبح استلهام جوهر الماركسية وروحها العامة وتراثها الثوري – دونما قبلية، ودونما سجود للصيغ الجاهزة – وسيلة لإقلال احتمالات الخطأ، وتصحيحه، وتجنب السقوط في التجريبية أو الخضوع للعفوية.
ففي ظل عزلته وغياب مصداقيته جف اليسار التقليدي واقترب من مرحلة الاحتضار بعد أن نخره التخلف الفكري، وجعل منه الجمود النظري صنماً فارغاً بلا حياة ، واستنفدت ثوريته الانتهازية وضيق الأفق، وخنقته العزلة الشديدة عن جماهير الفقراء .
إن فصائل وأحزاب اليسار العربي بحاجة إلى كوادر قيادية ثورية ديمقراطية واعية بالماركسية ومسارها التطوري المتجدد ومنهجها وواعية أكثر بمكونات واقع مجتمعاتها..قيادات كفؤة وقادرة على الإجابة على أسئلة الجماهير الفقيرة والاندماج في أوساطها والتعلم منها وتعليمها وتنظيمها وتثويرها ..بحاجة إلى قيادات وكوادر متواضعة وفيّه لكل شهداء الحرية والديمقراطية والعدالة والاشتراكية.. ملتزمة بالمبادئ العظيمة التي ضحوا بأرواحهم من اجلها ..ووفيّه لأسر الشهداء والجرحى والأسرى المناضلين الصامدين ..ووفيّه لجماهير الفقراء والكادحين وقود الثورة وهدفها …أخيراً فصائل وأحزاب اليسار بحاجة ماسة جداً لقيادات مبدئية صادقة لا تعرف النفاق والانتهازية والفساد والشللية.. إنها بحاجة ماسة إلى مثل هذه القيادات الثورية الوفية الواعية الصادقة ليرفعوها على أكتافهم ، وليست بحاجة إلى قيادات تأتي إليها ليرتفعوا على أكتافها …ويتنكروا لمبادئها وجوهرها الأخلاقي…ذلك هو أول الطريق لخروج قوى وفصائل اليسار من أزماتها الخانقة شبه المستعصية التي تنذر – في حال استمرار تراكماتها دون علاج جراحي ثوري – إلى تصدع أبنيتها وانهيارها وإسدال الستار عليها.
لذا فإن حركة اليسار العربي المتجددة أو الجديدة ، لن تأتي عبر تجميع الأطر الكمية الشكلية أو عبر الجمود والتخلف، أو الجثث القديمة، بل ستأتي عبر عملية خلق جديدة. إن ولادة جديدة لليسار العربي تحتاج إلى مخاض طويل وعسير عبر أحزاب بقيادات واعية وثورية تلتحم بالجماهير الشعبية وتسير في مقدمتها في المسيرة الطويلة حتى تحقيق الانتصار

(1)
عن المرأة العربية العاملة … الأم وشريكة العمر والابنة والأُخت والرفيقة والصديقة .

–   كل حديث عن التحرر والديمقراطية والمقاومة والتقدم لا يلتزم في الممارسة بالنضال من اجل المساواة الكاملة للمرأة العربية مع الرجل وتحريرها من كافة القيود الاجتماعية ومن كافة أشكال وأدوات ومظاهر الاستبداد التي تعاني منها المرأة في بلادنا ، هو حديث منافق أو زائف لا معنى ولا قيمة له أو تأثير.
–   أدرك أن مشوار تحرر المرأة ومساواتها مازال طويلاً في مجتمعاتنا ،وعليها ان تتحمل العبء الأكبر مع الرجل ، حيث نلاحظ استمرار العلاقات الأسرية القائمة على الخضوع أو مبدأ الطاعة والامتثال، وهو مبدأ منتشر في كل المجتمعات العربية بدرجات متفاوتة وليست متباعدة ، خاصة وأن الصورة المشتركة للتراث الشعبي (القديم والحديث والمعاصر) على المستوى العربي تتعاطى مع المرأة كخادمة للرجل ولشهواته الجنسية ، أو كإنسان ناقص أو من الدرجة الثالثة ، فهي ” ناقصة عقل ودين ” أو هي مصدراً للهموم حسب المثل الشائع ” هم البنات للممات ” أو ” كيدهن عظيم ” أو ” أمن للشيطان ولا تأمن للنسوان ” وكذلك الأمثال الشعبية المتداولة من قبيل “طاعة النساء تورث الندم ” و “البنت لا تأمنها من بيتها لبيت خالها ” و “الفرس من خيالها والمرأة من رجالها ” “ما خلا رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما”، ويقال أيضا: “المرأة فتنة”، “صوت المرأة عورة”.
و أخيراً وليس أخراً “ظل راجل ولا ظل حيط ” و هو المثل الذي يتضمن صراحة على أن الرجل هو الذي يعطي المكانة الاجتماعية للمرأة وليس الدور المميز للمرأة في العمل أو في السياسة أو في المجتمع أو في الإنتاج الأدبي .. إلخ .فعندما يمتزج الديني بالاجتماعي يبرز شكلا واضحا للتمييز بين المرأة والرجل مثلما يقال في بلادنا “المرأة مرأة والرجل رجل”، “ربّة بيت ممتازة”، “بنت عائلة”، “مطيعة ولا ترفع صوتها ولو بكلمة في وجه زوجها”، إن كلّ هذه الأقوال حول المرأة تتلفظ بها الألسن يوميا هنا وهناك. ويتفنّن الرجال اليوم في التعبير عن صورة المرأة صاحبة الأخلاق العالية بإضفائهم “بعدا أخلاقويا” آخر لصورة “المرأة العصرية” التي لابدّ لها من أن تخرج من البيت إلى ميدان العمل كي “تساعد” زوجها على مجابهة تكاليف الحياة لتصبح في الآن ذاته ربّة بيت ممتازة وعاملة ممتازة أيضا….وهذه الصورة الأخيرة لا تنتمي للتقدم بل هي عندي إعادة تجديد و تكريس للتخلف ولكن بمنطلق انتهازي .
–   إن صورة المرأة في الواقع الاجتماعي العربي ، خضعت وتخضع لسياقات اجتماعية وتراثية تاريخية بكل ما أنتجته من أعراف وعادات وتقاليد سلبية تراكمت على مدى التاريخ القديم والحديث والمعاصر، بواسطة جملة من الأدوات التواصلية كاللغة والدين والقانون والثقافة بمختلف مكوّناتها في إطار المجتمع التابع والمتخلف… وبالتالي فان هذه الأدوات أدت وظائفها داخل هذا الإطار بالتفاعل مع واقعه الاقتصادي والاجتماعي الذي شكل أساس البناء الثقافي لهذه التركيبة / الصورة التي لم تتطور مكوناتها بشكل جوهري أو متمايز عما كان عليه الحال قبل 50 عاماً ، فمازالت المرأة عموماً ، والفقيرة خصوصاً في أطراف المدن والأرياف ، تأتمر بأوامر الرجل وتدخل عنوة وغصبا بيت الطاعة والخضوع، بتأثير مباشر لهيمنة وسيطرة الرجل انسجاما مع الثقافة الذكورية المتخلفة السائدة ،وتساهم بالتالي –وفق ما أسميه عفوية الرضوخ- في إعادة إنتاج مكانتها الدونية في المجتمع.

–  التحرر الحقيقي للمرأة ، يكمن في تحررها الاقتصادي الذي يوفر لها الضمانات الفعلية، القانونية والمجتمعية في اتخاذ القرار في كل الميادين و على كل المستويات ، و المشاركة في الأنشطة السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية و الأسرية ، هذا هو التعبير عن حقيقة الارتباط الوثيق بين قضايا المرأة العربية و قضايا مجتمعها في الاستقلال الوطني و النهوض و التقدم الاجتماعي و التنمية و العدالة الاجتماعية و الديمقراطية، و هي قضية يتحمل مسؤوليتها كل مثقف عربي ديمقراطي تقدمي ً، فإذا كان العامل السياسي يلعب دوراً هاماً في تعزيز الهيمنة السياسية الطبقية البيروقراطية الفردية ، فإن العامل الاقتصادي يعزز و يكمل ذلك الدور في المجتمع عموماً ، و في إخضاع المرأة بصورة خاصة بالاستناد إلى التشريعات و القوانين من جهة أو بالاستناد إلى الهيمنة الذكورية الاقتصادية والتاريخية من جهة أخرى .
إذن وفي سياق حديثي عن قضية المرأة في بلادنا ، فإن التحرر الاقتصادي شرط أولي لكل تحرر مادي أو معنوي ، اجتماعي أو سياسي أو غير ذلك ، وهنا تتبدى أهمية العمل بالنسبة للمرأة المعزز بالشهادة العلمية كشرط أساسي لعملية تحررها في سياق العمل ، إذ أن العمل المجرد الذي يتيح دخول أعداد كبيرة من النساء – شبه الاميات والاميات – من الطبقات الشعبية الكادحة إلى سوق العمل المأجور ، لا يوفر سوى شكل من أشكال التحرر الجزئي الاقتصادي ، وهي ظاهرة معروفة في بلادنا، بحيث تبقى المرأة خاضعة لشروط الاضطهاد والخضوع الاجتماعي داخل الأسرة وخارجها ، وبالتالي فان عمل المرأة في المجتمعات العربية يمثل خطوة تقدميّة بلا شك تمهيدا لمشاركتها الفعالة في النشاط العام ، السياسي والاجتماعي ، عبر المؤسسات الثقافية والجمعيات والأحزاب في مسيرة النضال الديمقراطي المشترك لتحرير المجتمع من كل أشكال التبعية والتخلف والاستغلال وتجاوزها صوب مجتمع الحرية والديمقراطية والمواطنة والمساواة بين الرجل والمرأة وفق أسس ومفاهيم قانونية وسياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية تمثل روح المجتمع والمستقبل المشترك للمرأة والرجل في مجتمع عربي ديمقراطي.

( 2 )
العرب وتحديات الديمقراطية والتنوير والاستنارة والعقلانية والثورة :

يبدو أن أنظمة الاستبداد العربية الكومبرادورية عموما وأنظمة البترودولار الرجعية العميلة خصوصا ، إلى جانب ضعف تأثير وهشاشة دور أحزاب وفصائل وحركات اليسار العربي ، علاوة على غياب التنسيق والعمل المشترك فيما بينها ..مهد الطريق إلى انتشار وفوز حركات الإسلام السياسي عبر استغلال بساطة وعي الجماهير وعفويتها الناجمة – بشكل رئيسي- عن أوضاع التخلف الاجتماعي في كل البلدان العربية وتبعيتها التي أدت إلى تزايد الهيمنة الامبريالية والصهيونية على مقدرات شعوبنا، بحيث يمكن القول بأن هناك نوع من ردة الفعل في أوساط الجماهير العفوية تجاه حركات الإسلام السياسي، تتراوح بين القبول والترحيب والاندفاع في تأييدها دونما وعي حقيقي من الجماهير بطبيعة دور حركات الإسلام السياسي ورؤاها وشعاراتها الديماغوجية وبرامجها، الأمر الذي يفسر تمسك الجماهير العفوية بنوع ساذج من الدين، هذا التمسك يريحها ويسوغ لها هذا انشدادها للتيارات الدينية.
وفي هذا السياق نشير إلى أن النشاط الثوري العفوي للجماهير ،مستمر منذ أقدم العصور، لكن كل هذه المعارك والثورات ،لم تحقق انتصارها ،ولهذا ظلت مُستَغَلَّة مُضطهدة ،تثور مرة ،ثم تعود إلى سباتها سنوات ، وربما عقود، والسبب الجوهري هو أن الجماهير لم يتطور وعيها ،من خلال نشاطها الثوري .إن هذه الواقعة ،فرضت على لينين ،أن يتحدث عن أن الوعي الاشتراكي الديمقراطي ،لن يأتي العمال “إلا من خارجهم”… من الحزب الثوري أو الطليعة الثورية، وهذا هو دور قوى اليسار الذي يتوجب على كل رفيق الالتزام به ووعيه بكل عمق، ذلك إن النشاط الثوري غير المنظم قد يُكسب الطبقات المضطهدة (وهو يُكسبها بالضرورة)، خبرات في التخريب ، وفي التظاهر ، والقيام بالإضرابات … الخ ، لكنه لا يكسبها الوعي الثوري ومن ثم زخم وتواصل الحراك الجماهيري الثوري لاجتثاث أنظمة التبعية والاستبداد والتخلف.
لذلك علينا أن نفسر هذه الحالة الهروبية من الواقع، بصورة موضوعية ارتباطاً بظروف التطور الاجتماعي الاقتصادي الريعي المشوه ، الذي أسهم في تشكيل الوعي العفوي على هذه الصورة السالبة في أوساط الجماهير الشعبية ، في ظل استمرار غياب القوى الثورية الديمقراطية ، مما أدى إلى تكريس هيمنة الرجعية والكومبرادورية على ذهنية الجماهير ووعيها وصولاً إلى مشهد الإسلام السياسي الراهن ، دون ان نتجاوز تأثير الحالة الثورية العربية الراهنة – بالمعنى النسبي – في قسم هام من القطاعات الشعبية الفقيرة عموماً ، وفي المدن والعواصم العربية خصوصاً وهذا يعني بوضوح أن ضعف انتشار الحالة الثورية في أوساط جماهير الفلاحين والمهمشين في المناطق الريفية والطرفية يعود بشكل رئيسي إلى غياب الدور الفعال لأحزاب اليسار في أوساط هذه الجماهير في ظروف الوضع العربي الراهن التي تحفز على الثورة المستمرة حتى إسقاط أنظمة الاستبداد والاستغلال والتخلف ، إذ أن الوضع الراهن، الذي تعيشه شعوبنا العربية ، لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك و الهبوط الناجمة عن تكريس وتعمق خضوع وارتهان الشرائح الحاكمة في النظام العربي للنظام الامبريالي حفاظا على مصالحها الطبقية النقيضة لتطلعات ومصالح الجماهير ، لدرجة أن ربع القرن الأخير حمل معه صوراً من التراجع لم تعرف جماهيرنا مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر والنهوض الوطني والقومي الديمقراطي ، تحول هذا الوطن بدوله العديدة وسكانه إلى رقم كبير ، يعج بالنزاعات الداخلية والعداء بين دوله وطوائفه، لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية، وتحولت معظم أنظمته وحكوماته إلى أدوات للقوى المعادية، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة والفعل والمواجهة، في إطار عام من التبعية على تنوع درجاتها وأشكالها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والسيكولوجية، في ظروف فقدت فيها القوى والأحزاب اليسارية روحها وإرادتها الثورية وهويتها ، وفقدت قدرتها على الحركة والنشاط والنمو، وتراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها، الأمر الذي أفسح المجال واسعا لتيار الإسلام السياسي بمختلف تلاوينه ومسمياته في بلداننا العربية بذريعة منطلقاته الدينية أو الإيمانية التي لا تشكل تناقضا جذريا مع البرامج والسياسات الإمبريالية عموما وبرامجها الاقتصادية والمجتمعية خصوصا. ، ما يعني بوضوح شديد أن بلدان الوطن العربي أمام خيارين ..إما البربرية أو الثورة الاشتراكية .

( 3 )
منظور للعلاقة بين أحزاب وفصائل اليسار وحركات الإسلام السياسي

في إطار حديثي عن علاقة اليسار العربي مع حركات الإسلام السياسي ، فإنني أود التوضيح هنا أنني لست في وارد تناول موضوعة ” الدين” من زاوية فلسفية , في إطار الصراع التاريخي بين المثالية والمادية, فهذه المسألة ليست بجديدة, كما أنها ليست ملحة, كما أن عملية عدم الخلط بين الدين كعقيدة يحملها الناس، وبين الجمهور المتدين تعتبر مسألة مهمة وحساسة , فان يكون لنا موقف فلسفي من الدين، لا يعني على الإطلاق سحب ذلك الموقف على الجمهور المتدين , بل على العكس، فان التحليل الموضوعي ، إلى جانب الوعي والشعور بالمسئولية والواجب، يفترض منا الاقتراب من ذلك الجمهور واحترام مشاعره الدينية، والتفاعل مع قضاياه وهمومه وجذبه إلي النضال من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وإنهاء كافة أشكال الاستغلال والقهر والاستبداد، انطلاقاً من فهمنا للماركسية بأنها ليست نظرية مضادة للدين – كما يروج دعاة الإسلام السياسي والقوى الرجعية والامبريالية – بل هي طريقة تفكير لفهم الوجود بكليته ، فالماركسية تنظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر الوعي البشري في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل –في مراحل تاريخية معينة- تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع.
أما بالنسبة للعلاقة الخلافية بين اليسار وحركات الإسلام السياسي، فهي تستند – من وجهة نظري – إلى التحليل الموضوعي الذي يؤكد على أن الأساس في هذه الحركات هو دعوتها إلى معالجة القضايا المعاصرة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية…، عبر منطق غيبي تراجعي عاجز عن بلورة برنامج سياسي ديمقراطي اجتماعي تنموي ، يتناقض مع جوهر النظام المخلوع في تونس ومصر أو مع أي نظام استبدادي ، ما يعني إعادة إنتاج أنظمة ليبرالية رثة، وتابعة ومحتجزة التطور، مع استمرار النظام الاقتصادي الاستغلالي على ما هو عليه أسيراً وتابعاً لشروط الصندوق والبنك الدوليين وللسياسات الأمريكية .
وعلى الرغم من كل ما تقدم ، علينا أن ندرك في ضوء المستجدات والمتغيرات المتلاحقة راهناً، إلى أننا سنواجه –مع حركات الإسلام السياسي- ظروفا وأوضاعاً معقدة, ما يفرض على قوى اليسار العربي أن تتمسك برؤيتها الموضوعية إلى أبعد الحدود في العلاقة الديمقراطية وقضايا الصراع الطبقي والسياسي، ومفاهيم الاستنارة والعقلانية مع هذه الحركات بمختلف مذاهبها، كما عبر عنها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين ولطفي السيد وأحمد أمين .. وغيرهم، بحيث نحرص على أن لا تصل الاختلافات معها ، إلى مستوى التناقض التناحري، وأن تظل الخلافات محكومة للعلاقات الديمقراطية.
الانفصام السياسي الاقتصادي الاجتماعي، سيظل سمة رئيسية من سمات المرحلة الحالية، أو مرحلة “الإسلام السياسي” وهي مرحلة قد تطول ، لكن الجماهير الشعبية ستتكشف تدريجياً حقيقة التيارات الدينية وسياساتها وممارساتها التي لن تختلف -في جوهرها- عن سياسات النظام المخلوع، ما يفرض على القوى الديمقراطية الوطنية والقومية، والقوى اليسارية أن تكرس كل جهودها من أجل مراكمة توسعها ونضالها في أوساط الجماهير، بما يمكنها من أن تتخطى حالة الانفصام المذكور ، وذلك من خلال امتلاكها لرؤية سياسية مجتمعية اقتصادية ، تنطلق من استمرار النضال لاستكمال مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية، عبر التوسع في صفوف العمال والفلاحين والشباب وكافة الأطر والجمعيات المهنية والنقابات ، لكي تدخل معترك الانتخابات القادمة واثقة من انتصارها، خاصة وأن أسباب الانتفاضة الثورية لن تتلاشى أو تزول، بل ستتراكم مجدداً لتنتج حالة ثورية نوعية، تقودها القوى الديمقراطية، المدنية ، العلمانية واليسارية لكي تحقق الأهداف التي انطلقت الانتفاضات الشعبية من أجلها.

( 4)
عن أوهام الربيع العربي وضرورات التواصل الثوري

بعد حوالي عام من فوز جماعة الإخوان المسلمين ووصولها إلى سدة الحكم في مصر وتونس ، بات من الواضح أن حركات الإسلام السياسي وكافة القوى الرجعية والبورجوازية الرثة والبيروقراطية العسكرية والمدنية (المدعومة من الامبريالية الأمريكية) يتحركون داخل حلقة دائرية تعيد إنتاج التبعية والتخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتجدده بأساليب وشعارات ديماغوجية، في محاولة منهم التهرب من تحدي الحداثة والنهضة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية الثورية والتقدم بالعودة إلى تراث انتقائي موهوم استطاعت التيارات الأصولية إعادة زراعته وإنتاجه باسم وأوهام ما يسمى بــ” الربيع العربي ” عبر شكل ” جديد “من أنظمة الاستبداد والاستغلال الطبقي ، في قلب عفوية الجماهير الشعبية، ما يؤكد على أن الأساس في هذه الحركات هو دعوتها إلى معالجة القضايا المعاصرة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، عبر منطق تراجعي، من خلال الدعوة للعودة، بحسب ادعاء هذه الحركات، إلى الماضي بذريعة العودة إلى أصول الإيمان والاعتقاد.
وبالتالي ، فإن ما يسمى بالربيع العربي لم يجلب للجماهير الشعبية العربية سوى مزيد من الاستبداد والاستغلال والتخلف ، والمزيد من تأثير القوى اليمينية الليبرالية الرثة وقوى الإسلام السياسي والسلفيين خصوصاً، ما يعني عودة أدوات الظلم والظلام بلباس جديد لإعادة تشكيل بلدان النظام العربي في إطار أشكال جديدة من التبعية للسياسات الأمريكية والنظام الرأسمالي العالمي من خلال القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة ، الجيش ورجال الأعمال والكومبرادور وبقية أشكال الرأسمالية الطفيلية المعادية لتطلعات الشباب الثوري و جماهير الفقراء من العمال والفلاحين وكل المضطهدين، وهو أمر غير مستغرب عبر قراءتنا لدورها السياسي ومصالحها الطبقية ، إذ أن هذه القوى الطبقية كانت وستظل حريصة على إعاقة ربيع الثورة وتعطيل و تبهيت الصراع الطبقي ، وهي بالتالي تعمل دوماً على إرجاع مسيرة الثورة الشعبية إلى الوراء، فهي ضد التنوير وضد الحداثة وضد الديمقراطية وضد الاشتراكية والصراع الطبقي الثوري ، ما يؤكد استعداداها لمهادنة الامبريالية والتعاطي معها …لكن صيرورة الثورة الشعبية لن تنطفئ ، بل ستشتعل من جديد معلنة بداية ربيعها الثوري الديمقراطي القادم لا محالة ، خاصة في ظل تزايد أعداد الجماهير الفقيرة المقموعة والمضطهدة تاريخياً،والتي تتعرض اليوم إلى مواجهة أوضاع لا تحتمل، ما يعني بوضوح شديد استنهاض الثورة من جديد رغم التضحيات الجسام … لكن الآمال العظيمة في تحقيق الديمقراطية ودولة المواطنة والعدالة الاجتماعية الثورية بآفاقها الاشتراكية لن تتحقق إلا من خلال التضحيات العظيمة.
وهنا بالضبط تتبدى الضرورة التاريخية التي تستدعي من القوى اليسارية الثورية في كل بلد عربي، تركيز أهدافها ومهماتها الثورية الديمقراطية، السياسية والمجتمعية، عبر التواصل والتأثير في صيرورة الحراك الثوري المتجدد والراهن، وان تتحمل مسؤولياتها الكبرى، في كونها تشكل في هذه المرحلة طليعة الحامل السياسي الاجتماعي الديمقراطي لعملية التغيير الثوري ، من أجل تغيير الواقع الراهن وتجاوزه وتحقيق تطلعات وأهداف جماهير الفقراء من العمال والفلاحين وكل المظلومين والمضطهدين في إطار الثورة الشعبية الديمقراطية .

(5)
المسألة اليهودية والصراع العربي الصهيوني

منذ نشوء الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر، ثم تأسيس “دولة إسرائيل” في 15/5/1948 تم استخدام الأساطير الدينية والتوراتية ، لحساب الأهداف السياسية التي تخدم الكذبة الكبرى التي تقول بأن اليهود أمه، فالأساطير الدينية والتوراتية استخدمت تاريخياً – ولازالت- لحساب الأهداف السياسية، وذلك على قاعدة أن الصهيونية هي الجانب القومي في اليهودية ، واليهودية هي الجانب الديني في الصهيونية ، وبالتالي فإن “إسرائيل” تحقيق سياسي وتجسيد عملي وسياسي للظاهرتين معاً، في إطار العلاقة العضوية بين الحركة الصهيونية من ناحية، ومصالح النظام الاستعماري الرأسمالي من ناحية ثانية، وهذه العلاقة تؤكد على أن “إسرائيل” انطلاقاً من دورها ووظيفتها ، لم تنشأ إلا كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني العنصري في بلادنا، المستند إلى دواعي القوة الغاشمة والاغتصاب، لحماية مصالح العولمة الرأسمالية في بلدان وطننا العربي، وهي دولة لا يمكن أن ترقى عبر هذا الدور الوظيفي لتصبح جزءا من نسيج هذه المنطقة العربية ومستقبلها بأي شكل من الأشكال .
وها نحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وما زال شعبنا الفلسطيني –الذي قدم الآلاف من قوافل الشهداء- مستمراً في صموده ونضاله رغم كل التنازلات السياسية والمفاوضات العبثية ، ورغم الانقسام الناجم عن الصراع الدموي ، على المصالح والكوتات ، بين حركتي فتح وحماس، الأمر الذي يفرض على كافة القوى اليسارية الديمقراطية العربية مزيداً من الوحدة والنضال الديمقراطي لتثبيت أسس وبرامج الثورة الوطنية الديمقراطية ارتباطاً بمنظور الثورة القومية التحررية الديمقراطية في إطارها الأممي الإنساني، بمثل ما يفرض أيضاً على القوى اليسارية الفلسطينية مراجعة خطابها السياسي بما في ذلك خطاب حل الدولتين ، من أجل استعادة روح النضال الفلسطيني وأدواته وفق قواعد النضال القومي الديمقراطي باعتبار أن الصراع مع هذا العدو هو صراع عربي صهيوني من الدرجة الأولى.
ففي ظل موازين القوى الدولية والعربية المختلة لصالح التحالف الإمبريالي الصهيوني وموقفه النقيض للحد الأدنى من ثوابت وأهداف شعبنا الوطنية ، بات واضحاً ، أن التصوّر الصهيوني يتمسك بلاءات خمسة هي: لا انسحاب من القدس، لا انسحاب من وادي الأردن، لا إزالة للمستوطنات، لا عودة للاجئين، ولا للدولة الفلسطينية المستقلة، الأمر الذي يفرض على القوى الماركسية الثورية أعباء ومسئوليات كبرى ارتباطاً بدورها في المرحلة الراهنة عموماً ودورها المستقبلي الطليعي على وجه الخصوص، وهذا يتطلب إسهام الجميع في مناقشة القضايا المطروحة بكل مسئولية ووعي – من اجل بلورة الأسس الفكرية والسياسية والتنظيمية التي تكفل نهوضها ، بما يمكنها من تحديد رؤيتها ومهامها ووحدتها الداخلية للمرحلة القادمة بدقة .
ذلك إن صحة الوظائف السياسية والتنظيمية والفكرية والاجتماعية والجماهيرية لهذه القوى الثورية تتحدد في ضوء مدى تأسيس تلك الوظائف على رؤية صائبة ، وأن تصاغ بدورها انطلاقا من قراءة واعية وموضوعية لكافة المتغيرات السياسية والمجتمعية والفكرية ، سواء على الصعيد الفلسطيني أو العربي أو الدولي ، وهنا بالضبط يتجسد المعنى الحقيقي للأعباء والمسئولية الملقاة على عاتق كل عضو من أعضائها، وصولاً إلى النتائج المأمولة التي ستمكنهم من تحقيق عملية النهوض صوب دورها الطليعي المنشود.
لذلك فإن المهمة العاجلة أمام حركات وفصائل اليسار العربي عموما والفلسطينية خصوصا ، أن تعيد النظر في الرؤية الإستراتيجية التحررية الديمقراطية ، الوطنية/القومية ببعديها السياسي والمجتمعي ، انطلاقاً من إعادة إحياء وتجدد الوعي بطبيعة الدولة الصهيونية، ودورها ووظيفتها كمشروع إمبريالي لا يستهدف فلسطين فحسب، بل يستهدف –بنفس الدرجة- ضمان السيطرة الإمبريالية على مقدرات الوطن العربي واحتجاز تطوره .
وبالتالي يجب أن تتأسس الرؤية لدى كافة قوى اليسار القومي العربية، وفي المقدمة اليسار الثوري الفلسطيني، انطلاقاً من ذلك وليس من خارجه، فالدولة الصهيونية هي مركز ثقل الوجود الامبريالي في الوطن العربي، ووجودها حاسم لاستمرار السيطرة الامبريالية، وضمان استمرار التجزئة والتخلف العربيين. لهذا كان ضرورياً أن يعاد طرح الرؤية الوطنية من قلب الرؤية التقدمية القومية الديمقراطية الأشمل، التي تنطلق من فهم عميق للمشروع الامبريالي الصهيوني وأدواته البيروقراطية والكومبرادورية والرجعية، من أجل أن يعاد تأسيس نضالنا الوطني والديمقراطي على ضوء هذه الرؤية.
ولا شك في أن هذه المهمة هي أولاً مهمة الماركسيين في فلسطين والوطن العربي، وفي طليعتهم اليسار الثوري الفلسطيني المناضل من اجل استرداد الحقوق التاريخية على ارض فلسطين ….
والى أن تتوافر هذه الشروط تدريجيا سوف يستمر الصراع كما هو، مهما طال واستمر الحديث عن التفاوض من اجل ما يسمى حل الدولتين وفق الشروط الإسرائيلية الأمريكية، فلن يكون في ذلك سوى تكريسا للهيمنة والسيطرة الأمريكية الإسرائيلية على مقدرات الشعوب العربية واستمرار احتجاز تطورها واستتباعها وتخلفها.
وبالتالي فإن حديثي عن حل الدولة الديمقراطية العلمانية هو حديث يستدعي-على الأقل نظرياً في هذه المرحلة- استنفار كل طاقات اليسار من أجل إعادة النظر في الخطاب السياسي وصولاً إلى خطاب/برنامج يستجيب لمعطيات وضرورات المرحلة الراهنة والمستقبل، الأمر الذي يستدعي حواراً جاداً ومعمقاً بين أطراف اليسار الماركسي العربي لتحقيق هذه الغاية، ليبدأ مرحلة جديدة في نضاله من اجل إعادة تأسيس المشروع القومي التحرري الديمقراطي النهضوي ، كفكرة مركزية توحيدية تلتف حولها الجماهير الشعبية في فلسطين وبلدان الوطن العربي ، وفي الطليعة منها الطبقة العاملة وكل الكادحين والفقراء والمضطهدين والمُستَغَلين العرب الذين سيمثلون روح هذه النهضة وقيادتها وأدواتها .
إن النضال من أجل تحقيق هدف إقامة دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية لكل سكانها ، كفيل بحل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الديمقراطي الموحد، وهذه القضية قد يفترض البعض محقا أو بدون وجه حق بأنه موقف طوباوي ، فإنني أقول بوضوح أن هذا ليس موقفاً طوباوياً بقدر ما هو حلم ثوري تتوافر مقوماته وإمكاناته في نسيج مجتمعنا الفلسطيني ومجتمعاتنا العربية عموما، وفي أوساط الشرائح المضطهدة من العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة التي تتطلع بشوق كبير إلى المشاركة في تحقيق هذا الحلم الثوري الذي يجسد الأهداف الوطنية والديمقراطية المستقبلية للشعوب العربية .
إن فكرة الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية تتبدى اليوم ، باعتبارها التجسيد الثوري للحل الاستراتيجي الأمثل بالنسبة لحقوق شعبنا من جهة وبالنسبة للمسألة اليهودية برمتها من جهة ثانية، كحل استراتيجي، يكفل ويضمن استعادة شعبنا لحقوقه التاريخية والسياسية والسيادية في فلسطين وهو حل مرهون بتغيير موازين القوى، ما يعيدنا إلى تفعيل فكرة الصراع العربي الصهيوني، التي تتطلب بالضرورة العمل على تجاوز وتغيير هذا النظام العربي ومن ثم تغيير ميزان القوى تمهيداً لفرض الحل النهائي في دولة فلسطين الديمقراطية لكل مواطنيها.
لذلك فإن التحدي الكبير الذي يواجه شعوب امتنا العربية اليوم يجب أن يبدأ بعملية تغيير سياسي جذري ديمقراطي من منطلق الصراع الطبقي ضد أنظمة الإسلام السياسي وكل أنظمة الاستبداد والاستغلال والفساد التي تحكمها، وذلك انطلاقاً من وعينا بأن هذه الأنظمة شكلت الأساس الرئيسي في تزايد واتساع الهيمنة الامبريالية على مقدرات وثروات شعوبنا العربية، كما شكلت الأساس الرئيسي لتزايد واتساع عنصرية وصلف وهمجية “دولة” العدو الإسرائيلي.
إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعوبنا العربية كلها، في هذه اللحظة الثورية ، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان والمكان دوراً رئيسياً وأحادياً فيها، بل يعني – من خلال أحزاب وفصائل اليسار الماركسي الثوري -تفعيل وإنضاج عوامل وأدوات التغيير الديمقراطية الحديثة والمعاصرة ، والبحث عن مبرراتها وأسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن.
لذلك كله، “ينبغي علينا أن نحلم” بشرط أن ندرك سر قوة الحلم الثوري الذي يشكل منبع التغيير و الثورة ، وأن القوة الثورية هي مالك هذا الحلم ودون أن تغادر أقدامه تعرجات الواقع، للوصول لهدف نبيل وغاية واضحة، وهل هناك أنبل من غاية تحقيق دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية لكل سكانها تلتزم سياسياً وقانونياً وأخلاقيا بحل المسألة اليهودية في إطارها .

( 6 )
في وعي وممارسة العملية الاستنهاضية لأحزاب اليسار العربي ….

إنني أتحدث عن واقع مأزوم منتشر بضراوة داخل فصائل وأحزاب اليسار العربي ، وهو واقع يحتاج لجرأة عالية ومتصلة من العمل لتخطي دوائر المراوحة والإحباط ومحاولات تبرير الفشل ، باتجاه التأسيس لعمليات نهوض لابد منها ، كوننا لا نزال ، على ما يبدو ، في المرحلة الأولى من جولات الصراع والتناقض الرئيسي التناحري مع أعدائنا ، الامبرياليين والصهاينة ، وفي جولات صراعنا وتناقضنا الرئيسي مع القوى الرجعية وكل أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد البورجوازية العائلية والكومبرادورية الرثة .
لذا يجب أن تتم العملية الاستنهاضية ، وعياً وممارسة ،عبر إعادة تجديد وبناء ودمقرطة كل احزاب وفصائل اليسار بوصفها صيرورة تقوم بوظيفتها عبر رؤيتها وبرامجها الثورية ودورها المحدد ،من خلال مراكمة عوامل النهوض والإزاحة المتتالية لكل العوامل المؤدية إلى التراجع أو الفشل ، وذلك مرهون بتأمين شروط الفعالية السياسية والفكرية والتنظيمية والكفاحية والجماهيرية القصوى في قلب الصراع الطبقي، عبر توفير معايير ونواظم وآليات عمل داخلية ، ديمقراطية وثورية ، كعنصر قوة للارتقاء بدور فصائل وأحزاب اليسار العربي ورؤيتها وممارستها وتوسعها وانتشارها في أوساط جماهيرها ، إذ أن بقاء وضع هذه الأحزاب /الفصائل تحت رحمة البيروقراطية القيادية اللاديمقراطية التي تتميز في معظمها بأنها ضعيفة الكفاءة والعاجزة أو المترهلة أو المرتدة فكريا وهابطة سياسيا ،أودت بأحزابها وفصائلها إلى الابتعاد عن الممارسة الصحيحة والغرق في مستنقعات الردة أو المناهج التقليدية والعقلية الجامدة او الهابطة والانتهازية، وهذا يفتح الباب واسعا داخل التنظيم “أمام توليد بيئة ملائمة للشللية وللنفاق وفقدان الجرأة والصراحة واللعب على التناقضات وشخصنتها ، وفقدان القدرة لدى معظم الأعضاء على المحاسبة والنقد الجريء .وبالحصيلة ، مزيد من التراجع والتهميش وإغراق الحزب وما يواجهه من أسئلة ومعضلات ومهام كبرى فكريا وسياسيا وكفاحيا في مزيد من الأزمات والمناورات والحسابات الأنانية التافهة والعزلة عن الجماهير ، وفي مثل هذه الحالة تكمن المأساة ، في أن الحزب هو الذي يدفع الثمن من رصيده السياسي والمعنوي (والتنظيمي) ، على شكل فقدان الشروط الضرورية لتأدية دوره ووظيفته السياسية والاجتماعية على المستوى الوطني ، ويخل ببنيته كعقد اجتماعي”.
لذلك لابد من وقفة مراجعة جدية لاستنهاض أحزاب وفصائل اليسار العربي ، بالمعنيين الموضوعي والذاتي ، خاصة وأن ما ينقص معظم كوادر وأعضاء قوى اليسار هو الدافعية الذاتية أو الشغف والإيمان العميق بمبادئه عبر امتلاك الوعي العلمي الثوري في صفوف قواعده وكوادره ، فبينما تتوفر الهمم في أوساط الجماهير الشعبية واستعدادها دوما للمشاركة في النضال بكل إشكاله ضد العدو الامبريالي والصهيوني ، وضد العدو الطبقي المتمثل في أنظمة التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد والقمع ، إلا أن أحزاب وفصائل اليسار لم تستثمر كل ذلك كما ينبغي ولا في حدوده الدنيا ، لأنها عجزت – بسبب أزماتها وتفككها ورخاوتها الفكرية والتنظيمية – عن إنجاز القضايا الأهم في نضالها الثوري ، وهي على سبيل المثال وليس الحصر: أولا – عجزت عن بلورة وتفعيل الأفكار المركزية التوحيدية لاعضاءها وكوادرها وقياداتها واقصد بذلك الفكر الماركسي وصيرورته المتطورة المتجددة.ثانيا-عجزت بالتالي عن تشخيص واقع بلدانها ( الاقتصادي السياسي الاجتماعي الثقافي ) ومن ثم عجزت عن إيجاد الحلول أو صياغة الرؤية الثورية الواضحة والبرامج المحددة ، كما عجزت عن صياغة البديل الوطني والقومي في الصراع مع العدو الامبريالي الصهيوني من ناحية وعن صياغة البديل الديمقراطي الاشتراكي التوحيدي الجامع لجماهير الفقراء وكل المضطهدين من ناحية ثانية .ثالثا – عجزت عن بناء ومراكمة عملية الوعي الثوري في صفوف أعضاءها وكوادرها وقياداتها ليس بهويتهم الفكرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي فحسب بل أيضا عجزت عن توعيتهم بتفاصيل واقعهم الطبقي ( الاقتصاد، الصناعة ، الزراعة ، المياه ، البترودولار ، الفقر والبطالة والقوى العاملة، الكومبرادور وبقية الشرائح الرأسمالية الرثة والطفيلية ، قضايا المرأة والشباب ، قضايا ومفاهيم الصراع الطبقي والتنوير والحداثة والديمقراطية والتخلف والتبعية والتقدم والثورة …الخ ) فالوعي والإيمان الثوري (العاطفي والعقلاني معا ) لدى كل رفيقة ورفيق، بالهوية الفكرية وبضرورة تغيير الواقع المهزوم والثورة عليه ، هما القوة الدافعة لأي حزب أو فصيل يساري، وهما أيضاً الشرط الوحيد صوب خروج هذه الأحزاب من أزماتها ،وصوب تقدمها وتوسعها وانتشارها في أوساط جماهيرها على طريق نضالها وانتصارها .

( 7 )
إلى رفاقي في الأحزاب والفصائل اليسارية العربية.. ماذا يعني ان تكون ماركسيا؟

لا خلاف على ان الماركسية نشأت في أتون الاستغلال الرأسمالي والصراع الطبقي، وتميزت بنضوجها ووعيها لطبيعة النظام الرأسمالي ، إلا أن هذه النشأة لم تكن بمعزل عن التيارات السابقة للفكر الاجتماعي، وبالتالي لن تكون بمعزل عن التطورات والصراعات الطبقية الاجتماعية والسياسية اللاحقة .
فالماركسية ليست تصور أو مجموعة أفكار فقط، إنها فلسفة الشك التي تفترض إعادة تقييم الظواهر بلا توقف، وفق قوانينها العامة التي لا يمكن تطبيقها بصورة موضوعية صحيحة إذا لم تأخذ في الاعتبار طبيعة التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الخاص لهذا المجتمع أو ذاك .
فالماركسية هي نظرية علمية قابلة للتطبيق على أي مجتمع وفق خصائصه الاقتصادية الاجتماعية الثقافية في جميع مراحل تطوره ، وهي بهذه الصفة علم متجدد ومتطور لا يقل دقة عن سائر العلوم الطبيعية، فهي علم تطبيق المنهج المادي الجدلي والتاريخي والاقتصاد السياسي على تاريخ المجتمع البشري بجميع مراحله وأنماطه المختلفة عموماً، وعلى التاريخ الخاص لكل مجتمع من المجتمعات البشرية خصوصاً.
أن تكون ماركسياً يعني أن تبدأ من ماركس، ولكن لا تتوقف عنده، أو عند أحد كبار خلفائه في العصر الحديث. وهناك فرق بين أن تكون ماركسياً، أو أن تكون ناطقاً بالماركسية. أن تبدأ من ماركس، يعني أن تبدأ بوعي منطلقاته المادية الجدلية والتاريخية ورؤيته الاشتراكية وتتواصل مع مسيرتها وتطوراتها وتجددها . وبهذه الروح يجب في رأيي أن ننظر في قضية النظرية الثورية اليوم.
وعلى هذا الأساس فإن الحفاظ على الماركسية ومتابعة رسالتها الإنسانية لا يكمن في الدفاع اللاهوتي أو الدوغمائي عن تعاليمها، وإنما بالنقد الدائم لأفكارها وتجديدها ارتباطاً بأهدافنا العظيمة من أجل التحرر الوطني والقومي الديمقراطي التقدمي في إطاره الإنساني والأممي .
لهذا يجب أن يتحدد دورها في الصراع الراهن، في إطار التناقض الرئيسي التناحري مع الإمبريالية والحركة الصهيونية، وفي إطار التناقض الرئيسي الداخلي في الصراع السياسي والطبقي ضد أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد في بلادنا ، وهذا هو واجب كل أحزاب وفصائل اليسار لمواجهة وإزاحة قوى اليمين الوطني واليمين الديني عبر النضال الديمقراطي .
في إطار هذه الضرورة، ووعينا لها، علينا تبني الماركسية كمنهج للتحليل وكنظرية في التغيير الثوري، خاضعة للتطور والاغتناء ارتباطاً بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
أن تصبح ماركسياً معناه أن تقوم بزيارة التاريخ لا أن تُزَوِّره ، أن تَزُورَه عبر تحليل وفهم التطور التاريخي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لشعوبنا العربية منذ آلاف السنين وفق قوانين الماركسية ومقولاتها العلمية الموضوعية، ووفق مضمونها الطبقي الثوري الذي يرفع رايات الكادحين ضد رايات الرأسمالية وأدواتها المُستَغِلّة التي تنزف دماً من كلّ مساماتها ….أن تكونوا ماركسيين معناها ان تقوموا بتوفير كل شروط ومقومات وأسس الحزب الثوري الذي يتقدم الجماهير معبرا عن همومها وتطلعاتها في إنهاء كل مظاهر الاستغلال والإفقار والقهر والاستبداد…حزبا ثوريا خاليا من كل عناصر الهابطين والانتهازيين والفاسدين والمرتدين ومن كل مظاهر وشخوص الشللية والتكتلات وتطهير الحزب أو الفصيل منهم أولا بأول ليبقى ثوريا نقيا مناضلا في كل الأوقات والظروف.
أيها الرفاق ، أن تكونوا ماركسيين اليوم، معناها أن تراكموا كل عوامل الثورة الشعبية لإزالة وسحق أنظمة التخلف والرجعية والاستبداد والتبعية واجتثاثها من بلادنا وإقامة المجتمع الاشتراكي الديمقراطي وهذا يفرض عليكم المبادرة إلى إقامة العلاقات السياسية والفكرية والتنظيمية بما يمكنكم من صياغة أساليب العمل المشترك بين كافة قوى وأحزاب وفصائل اليسار عبر رؤية ثورية إستراتيجية مشتركة لا تلغي خصوصية أي حزب أو فصيل، بقدر ما تؤكد على أهمية التنسيق والعمل المشترك بما يؤدي إلى تكريس وتقوية العلاقات عبر اللقاءات الدورية (السياسية والفكرية والتنظيمية) بين جميع قوى اليسار، تمهيداً لوحدة الحركة الماركسية العربية…. وهذا يفرض أن تكونوا ماركسيين معناها أن تقاوموا هذه الحركة الصهيونية، وليدة النظام الرأسمالي وربيبته، وان تناضلوا من اجل إزالة الصهيونية وتحقيق الهدف الاستراتيجي في إقامة دولة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها، وأن تقاوموا نظام العولمة البشع ، لا أن تستهلكوا بضاعته الفكرية الرخيصة من الواقعية إلى الليبرالية إلى المهادنة…. أن تكونوا ماركسيين ، يعني أن تكونوا حاضنة دافئة للجماهير الشعبية العفوية، تحترمون كل تراثها ومعتقداتها وتتعلموا منها ، فأن تكون ماركسياً، يعني أن تنظر إلى الدين على أنه وعي اجتماعي وجزء هام ورئيسي من الوعي الإنساني، استطاع أن يلعب دوراً في تحرير الإنسان من الاستغلال عندما أحسن التعاطي مع أفكاره وجوهره عموما وفي بداياته الأولى خصوصا .
وأخيراً أن تكون ماركسياً، هو أن يتكامل وعيك أيها الرفيق، فتنهل من النظرية وتدرك منهجها إدراكا ذاتيا ، وتؤسس لك أرضية صلبة تنطلق منها للعمل النضالي والديمقراطي، الوطني والقومي والإنساني، لا أن تأخذ السياسة على حساب الفلسفة، فالجزء يكمل الكل، ولا تنفصل النظرية الماركسية ومنهجها بالنسبة لنا وفي كل الظروف عن العمل السياسي، فإذا ضاع الجزء، ضاع الكل ، وضاعت معه هوية حزبنا الفكرية .
أن تكون ماركسياً هو أن تعمل على أن يكون وطننا العربي كله، وطن لأبناءه ، وطناً مستقلاً حراً موحداً تسوده الاشتراكية والحرية والديمقراطية والمساواة ، يبنيه ويحميه أبناءه من العمال والفلاحين الفقراء والكادحين بإرادتهم الجماعية الحرة، وبقيادة الحزب الماركسي الطليعي الجماهيري الثوري والديمقراطي.
من هنا أتوجه إلى كل الرفاق عموماً والشباب والشابات خصوصاً بالقول: إن البحث في الماركسية يجب أن يبتدئ من التخلص من إرث الأفكار البالية الرجعية والمتخلفة، وامتلاك الوعي بالمنهج الجدلي المادي وتطبيقاته على الاقتصاد والمجتمع والثقافة ، كما على كل جوانب الواقع في الممارسة التنظيمية والنضالية واليومية لهم ولرفاقهم، كما أتمنى عليهم بل أطالبهم بأن يمارسوا مراكمة وعيهم ونضالهم الكفاحي والسياسي والديمقراطي انطلاقاً من قناعتهم بأن أحزاب اليسار الماركسي العربي وحدها التي تملك الرؤية الإستراتيجية النقيضة للوجود الامبريالي الصهيوني في بلادنا ، وهي وحدها أيضاً التي تملك الرؤية الإستراتيجية الكفيلة بإنهاء كل مظاهر التبعية والاستغلال والقهر الطبقي وتحقيق العدالة والمساواة … وهي بالتالي وحدها التي تمثل المستقبل لشعوبنا العربية .
المهم أن ننطلق من قناعتنا بأن “الناس هم الذين يصنعون التاريخ” … هذه هي القيمة الثورية التاريخية للماركسية، خاصة وأننا نعيش اليوم في ظروف الانتفاضات العربية و انتشار الروح الثورية ضد أنظمة التبعية والتخلف من ناحية وفي ظروف انتشار الإسلام السياسي والثورة المضادة والفتن الطائفية ، وتفاقم مظاهر الفقر والصراع الطبقي، وغياب الأفكار التوحيدية على الصعيدين الوطني والقومي، وبالتالي فإن الحاجة إلى برنامج الثورة الوطنية التحررية والديمقراطية بآفاقها الاشتراكية اكبر بما لا يقاس من أي مرحلة سابقة.
وفي كل الأحوال فإن تساؤلاتنا وإجاباتنا – حول الواقع والنظرية – ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا أو طبيعة التزامنا… وكلنا ثقة بأن السواد الأعظم من رفاقنا ورفيقاتنا في فلسطين والوطن العربي ، حريصون على توسيع معارفهم بالنظرية ومنهجها بمثل حرصهم على وعيهم لمكونات واقعهم في مشهد الانتفاضات الشعبية المليء بالاحتمالات والقلق المشروع – في اللحظة الراهنة – من إمكانية استعادة قوى الثورة المضادة بدعم صريح ومباشر من القوى الامبريالية وحلف الناتو ودولة العدو الإسرائيلي ، لإعادة إنتاج التبعية والاستبداد والتخلف بصور وأشكال جديدة ، الأمر الذي يتطلب استنهاض كافة قوى اليسار العربي الديمقراطي الثوري من أجل توفير كل مقومات القوة والوحدة السياسية والفكرية والتنظيمية بما يمكنهم من استعادة دورهم الطليعي في تحقيق أهداف الثورة الوطنية والقومية ، التحررية الديمقراطية التي تنتظرها الجماهير بشوق كبير.
 
 
من موقع الحوار المتمدن
13 يناير 2013