لقد عُرّفت كلمة القيادة في أدبيات الفكر السياسي بأنها القدرة على
توليد الثقة في أحقية وصلاح الأهداف التي ينادي بها القائد، وعلى إظهار
الشجاعة لتنفيذ تلك الأهداف، وعلى جعل أتباع القائد من المطيعين والملتزمين
بالأهداف. ولقد وصل الحال بالبعض إلى اعتبار القيادة إحدى الفضائل التي
تغني عالم السياسة، وانشغلوا بوصف الصّفات الشخصية التي تجعل من القائد
شخصية محبوبة وموثوقاً بها ومطاعة.
في اعتقادي أن هناك جانباً من هذا الموضوع قد أهمله الكثيرون، وهو
الجانب المتعلق بامتداد تلك القيادة، أهدافاً وقادةً جدداً وأتباعاً لا
ينقطعون، امتدادها في الزّمن. وهذا الجانب، كما سنبيّن لاحقاً، يعتمد إلى
حدّ كبير على تصُّرفات وأخلاقيات القائد.
بالنسبة لنا نحن، عرب القرنين العشرين والواحد والعشرين، هذا موضوع بالغ
الأهمية، إذ انّه كان أحد النواقص المفجعة في حياتنا السياسية العربية
طيلة المئة سنة الماضية. ذلك أن الأمة العربية لم تحظ عبر تلك السنين
الطويلة بقيادات تمتد عبر الزمن، وإنّما حظيت بشخصيات كاريزميّة محبوبة
ومطاعة، مارست الرئاسة والهيمنة وحقّقت نجاحات مبهرة أحياناً، ولكنّها لم
تمارس القيادة. ذلك أن القائد الناجح الحقيقي هو الذي يترك من بعد رحيله
أتباعاً تلامذة يؤمنون بفكره ويحملون مسئولية رسالته ويحاربون ويموتون من
أجلها.
استمرار فكر ووهج الرسالة وعدم تراجع زخم النضال من أجلها عبر الزمن
المستقبلي هو جزء لا يتجزأ من مفهوم وشروط القيادة الناجحة. والقادة الذين
بعد موتهم يخيّم الصّمت المطبق على ما رفعوا من شعارات وما بذلوا من جهد
لحفرها في واقع المجتمعات كانت نجاحاتهم مؤقتة وقياداتهم ناقصة.
فالشعارات والأفكار العظيمة التي جاء بها رجال عظام تحتاج دوماً إلى
أكثر من جيل وإلى سلسلة طويلة من القادة الجدد لإيصالها إلى نهاياتها
المبتغاة السعيدة.
إن فشل الكثيرين من القادة السياسيين العرب إبان القرن الماضي في أن
يكونوا من الذين يخرقون حاجز الزمن الحاضر إلى الزّمن الممتدّ في أفق
المستقبل قد جعل السماء السياسية العربية إبّان ذلك القرن مليئةً بالغيوم
الكثيفة التي ولّدت الكثير من ضوضاء الرعد ولمعان البرق، لكنّها فشلت في أن
تنزل مطراً يجعل الأرض العربية تهتزّ وتربو زرعاً ونماءً وطنياً وقومياً
وحضارياً.
اليوم والوطن العربي يموج بالانتفاضات الثورية الواعدة، نحتاج الى أن
نطرح على أنفسنا السؤال المشروع: لماذا عمّت ظاهرة التشوُّه التي وصفناها
سابقاً في ممارسة القيادة عبر الحياة السياسية العربية الحديثة؟ لماذا لم
يستطع قادة عرب مخلصون، شهد لبعضهم القاصي والدّاني بقوة الشخصية وعمق
التأثير الجماهيري واتساع رقعة المؤيدين في هذا القطر أو ذاك، بل وأحياناً
في الوطن العربي كله، تربية قادة جدد آخرين قادرين على حمل الراية وتجييش
الجماهير إلى يوم احتفال الأمة بالنصر؟ في اعتقادي أن جزءاً من الأسباب
يعود إلى تقصيرٍ من القادة أو إلى أخطاءٍ ارتكبوها. بعضهم نسي أو جهل أن من
أهمّ وأعظم مهمّات كل قيادة توليد ورعاية قادة آخرين وليس فقط إنتاج أتباع
آخرين، كما يؤكد المناضل السياسي ـ الحقوقي الأميركي الشهير رالف نادر.
البعض الآخر أصابهم شلل التوجّس من وجود أيّ نوعٍ من القادة الآخرين من
حولهم وذلك خوفاً من وجود من يزاحمهم في الشهرة أو المكانة أو النفوذ.
آخرون لم يدركوا أن القيادة تحتاج إلى فريق بقائد وليس إلى قائد بلا
فريق. ولذا ناءوا تحت ضخامة العبء الذي حملوه ففشلوا كأفراد قادة وأفشلوا
معهم الرسالة.
جميعهم لم يفرّقوا بين مركز الرئاسة ومركز القيادة. فكما أوضح أحدهم
بتفصيل فإن رئيس الفريق يخلق الخوف أما القائد فيخلق الثقة؛ والرئيس يلوم
الآخرين أما القائد فإنه يصحّح الأخطاء؛ والرئيس مشغول ومهتمٌ بنفسه بينما
القائد يركّز اهتمامه على المناصرين والأتباع. ويستطيع الإنسان أن يعطي ألف
مثل على تصرّفات الكثيرين من قادة العرب التي أظهرتهم كأنهم رؤساء نوادٍ
وورش عمل ودكاكين بدلاً من تصرُّفهم كقادة مجتمعات وأوطان.
مناسبة طرح هذا الموضوع من جديد، ما يلاحظه أي مراقب من انجرافٍ تدريجي
لقيادات ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي نحو ارتكاب الأخطاء والنواقص
نفسها التي اتصفت بها القيادات العربية السياسية السابقة. فالشخصنة، وعدم
رعاية قيادات جديدة، والاستيلاء على كل الأضواء والمنابر، وممارسة ما يشبه
مماحكات المنافسة بين رؤساء وورش السَّمكرة، ولوم الآخرين، وازدراء الأخذ
والعطاء… كل ذلك وأكثر بدأ يطلُّ برأسه من جديد، والنتيجة هي تهديدٌ
حقيقي لقدرة أحداث الحاضر المبهرة في أن تحفر نهراً متدفّقاً يمتدُّ في
المكان والزمن العربييّن.