المنشور

ثقافة الإنتاج في إصلاح أسواق العمل الخليجية




عرضنا
على مدى مقالين لمشروع إعادة هيكلة وإصلاح سوق العمل السعودي، باعتبارها
تجربة جديدة تضاف إلى تجربة مملكة البحرين في إصلاح سوق العمل اللتين
تتشابهان تقريباً في مقاربتهما باستثناء أن مشروع إصلاح سوق العمل البحريني
أخرج الحد الأدنى للأجور من حزمة أدواته الرامية إلى رفع تكلفة العمالة
الأجنبية وتركه لقوى السوق (العرض والطلب) لتحديد مستوياته، في حين أن
مشروع إصلاح سوق العمل السعودي اعتبر الحد الأدنى للأجور الذي حدده بثلاثة
آلاف ريال، إحدى أمضى أدواته التدخلية في سوق العمل لإحداث التوازن المطلوب
في تنافسية قوة العمل المحلية والأجنبية .




ولعلي
أتذكر بهذا الصدد أن الأمريكي “دان هيبورن” الرئيس التنفيذي لشركة نفط
البحرين “بابكو” كان قد طرح في ندوة عقدها بمقر جمعية الاقتصاديين
البحرينية في تسعينات القرن الماضي، رؤيته لمعالجة مشكلة البطالة في
البحرين ومفادها ضرورة رفع الحد الأدنى لأجر العامل الأجنبي إلى 250
ديناراً (2500 ريال سعودي)، من أجل تعزيز تنافسية العامل/الموظف البحريني
في السوق . وكمؤشر آخر على تجاوز دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية
مرحلة الهواجس واستشعار مخاطر الاختلالات الهائلة في أسواق العمل الخليجية
وضغطها المتزايد على المساهمة المتواضعة لقوة العمل الوطنية في إجمالي قوة
العمل النشطة اقتصادياً في القطاع الخاص الخليجي خصوصاً، إلى مرحلة الفعل
المبادر لمعالجة هذه الاختلالات، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة هي
الأخرى طرحت مؤخراً نموذجها على هذا الصعيد، حيث طرح صاحب السمو الشيخ
خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، مبادرة لتعزيز
مشاركة الكوادر الوطنية في سوق العمل “أبشر” التي تتضمن أربعة محاور
استراتيجية هي: خلق فرص العمل الوظيفية للمواطنين، والتأهيل والتدريب،
والإرشاد والتوجيه المهني، وتشجيع المواطنين على الالتحاق بالقطاع الخاص .




وفي
إطار تطبيق هذه الرؤية الإماراتية لإعادة صوغ وهيكلة سوق العمل الإماراتي،
فقد أطلق سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير
شؤون الرئاسة، برنامجاً لتنفيذ المحور الاستراتيجي الخاص بتشجيع المواطنين
للعمل في القطاع الخاص، على أن تشرف على تنفيذه وزارة شؤون الرئاسة وتنفيذه
بالشراكة مع القطاعين العام والخاص .




ويهدف
البرنامج إلى تقليص الفجوة في الرواتب والامتيازات بين القطاع الحكومي
والقطاع الخاص من خلال حزمة حوافز تشجيعية تشمل: أولوية صرف منحة الزواج
للمواطنين العاملين في القطاع الخاص المسجلين في البرنامج، والحصول على 15%
خصومات على القاعات وخدمات الأفراح، أولوية صرف المنح والمساعدات
الإسكانية من مؤسسة زايد للإسكان للمستفيدين من البرنامج الذين مر على
وجودهم في القطاع الخاص أقل من ثلاث سنوات . كما تشمل إعطاء وزارة التعليم
العالي والبحث العلمي أولوية لأبناء المواطنين العاملين في القطاع الخاص،
وإعطاء الهيئة الاتحادية للكهرباء والماء خصم 40% من قيمة رسوم التوصيل
المقررة لخدمة الكهرباء والماء لسكن المواطنين العاملين في القطاع الخاص في
المناطق التابعة للهيئة . إضافة إلى امتيازات أخرى في مجال الصحة والتأمين
وحسومات بطاقات الائتمان .




هذه
بالتأكيد مبادرات ابتكارية جيدة وعملية، وهو ما سيجعلها أكثر فاعلية في
معالجة الاختلالات الهيكلية في أسواق العمل الخليجية من المقاربات
التقليدية السابقة .




 ومع
ذلك، وبرغم أهمية وفاعلية مقاربات هذه المبادرات والبرامج الإصلاحية
لأسواق العمل الخليجية، فإنه من منطلق تشابه معطيات الإشكاليات التي تنتظم
هذه الأسواق والتحديات التي تطرحها، نرى أن من الضرورة بمكان إدراج متغير “
(

Variable)
إعادة
هيكلة” الثقافة الشعبية والنخبوية الخليجية تجاه العمل المنتج ضمن النموذج
الجديد لإعادة هيكلة أسواق العمل الخليجية، باعتباره مكوناً أساسياً من
مكونات المعادلة الجديدة التي تم الشروع في إنفاذها والأخرى المزمع تنفيذها
قريباً .




 نظام
الحوافز المالية والمادية للقطاع الخاص وللعمالة الوطنية، واستخدام آليات
التدخل الحكومية في إعادة تضبيط أسواق العمل، على النحو الجدي والفعال الذي
اتخذته المبادرات الخليجية الجديدة الخاصة بإعادة هيكلة أسواق العمل
الوطنية لديها كلها خطوات بناءة وفي غاية الأهمية بلا أدنى شك . إنما من
دون وضع برامج خاصة بإعادة التوازن بين ثقافة الاستهلاك وثقافة الإنتاج،
فإن هذه المشاريع ستظل ناقصة عنصر مهم من عناصر استدامتها في ظل إمكانية
تعطل أو تراخي الآليات المادية والتدخلية التي تم تكليفها بتأمين سير
وانتظام عمل تلك البرامج الإصلاحية لأسواق العمل الخليجية .




 وهذا
يتطلب قيام ذات السلطات المختصة بوضع ومتابعة تنفيذ برامج إصلاح أسواق
العمل الخليجية بتصميم برامج خاصة “لإعادة هيكلة الثقافة” الاستهلاكية
المفرطة وإغنائها بالمكون الثقافي الإنتاجي، على غرار البرامج التي وضعتها
خصيصاً للتحفيز المادي لقوة العمل الوطنية الخليجية، قبل إطلاق حملة بارعة
لتسويق هذه البرامج (الخاصة بإشاعة الثقافة الإنتاجية) عبر كافة وسائل
الميديا والاتصال الجماهيري .