رغم الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات وسرعة نموهما وتطورهما خصوصاً مع استفادتهما من التحولات النوعية التي أحدثتها ثورة تكنولوجيا الأجهزة والأدوات المتناهية الصغر Nano technology، التي عكست نفسها على مختلف وسائط الميديا والتواصل الاجتماعي، ما أدخل مجتمعات الكرة الأرضية قاطبة في عصر يمكن أن نطلق عليه عصر الصحافة الجماهيرية الذي يتميز باختفاء المساحة الفاصلة بين الناس وأجهزة الإعلام المختلفة . فكان لابد أن ينعكس ذلك على الوضع التنافسي لأجهزة الميديا التقليدية ومنها المذياع الذي كان يوماً (طوال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي) نجماً ساطعاً في سماء الميديا العربية قبل أن تزاحمه الشاشة الفضية . ومع ذلك فلقد بقي المذياع رغم كل هذه التطورات والانقلابات العاصفة التي شهدتها أجهزة الميديا في السنوات الماضية، محافظاً على قيمته وخصوصيته كوسيلة إعلامية صديقة حميمية لكل الناس من مختلف المشارب والأجناس المعرفية والثقافية .
وما كان مستغرباً على الإطلاق أن تبقى محطة هيئة الإذاعة البريطانية “بي .بي .سي” في خضم هذه الثورات المتتابعة التي شهدها قطاع الاتصالات والمعلوماتية في العالم، محافظة على صيتها وشهرتها ومكانتها وتميزها بين المحطات الإذاعية العالمية ليس فقط بسبب عدد اللغات التي تبث بها (32 لغة) وعدد مراسليها المنتشرين في بقاع العالم المختلفة، وإنما بسبب حرصها في المحافظة على المستوى الرفيع لجودة برامجها الإذاعية ومقدمي هذه البرامج ونوعية العاملين فيها، حتى إن فقدت، بشكل عام، بعضاً من وهجها ورونقها الكلاسيكي البديع والثري معلوماتياً وثقافياً . ولعلي أزعم هنا أن محطة ال”بي . بي . سي” الناطقة بالإنجليزية مازالت محافظة على كياستها ومهنيتها في حين أن المحطة الناطقة بالعربية راحت تفقد بريقها السابق منذ أن تم تعهيدها عربياً بالكامل، حتى لم يعد الفارق كبيراً بينها وبقية المحطات الإذاعية العربية الجديدة الصاعدة . ومع ذلك لا يستطيع المرء الاستغناء عن سماع بعض برامجها التي تحاكي مهنية ال”بي . بي . سي” التي طالما خبرها جمهور المستمعين العرب على مدى خمسة عقود ونيف . لقد تغير طاقم المذيعين ذوي الأصوات المميزة وتغيرت البرامج وتغير محتوى نشرات الأخبار . . وتغيرت نوعية الضيوف الذين تتم استضافتهم في برامج المحطة .
مساء يوم الجمعة 22 ديسمبر/كانون الأول 2012 كنت أستمع الى برنامج “بي . بي . سي . اكسترا”، وهو من البرامج الجديدة والمميزة في محطة إذاعة “بي . بي . سي . العربية” . . وفي فقرة من فقرات البرنامج المخصصة لمناقشة المجزرة المروعة التي ارتكبها شاب أمريكي في العشرين من عمره يدعى آدم لانزا صباح يوم الجمعة الموافق للرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2012 التي راح ضحيتها 20 طفلاً وطفلة و 6 بالغين في مدرسة ابتدائية في مدينة نيوتاون بولاية كونيتيكت، فكان أن أثار ذهولي واستغرابي سماعي لصوت صحفي عربي مخضرم حل ضيفاً على البرنامج لاستطلاع رأيه عن هذه الجريمة البشعة، وهو يرد على سؤال المذيعة بقوله “الحمد لله أنه ليس لدينا في العالم العربي مثل هذه الجرائم التي نسمع عن حدوثها بين فترة وأخرى في الولايات المتحدة والسويد والنرويج”، ولكأني به يتحدث عن واحة ميتافيزيقية (ما ورائية) أو أسطورية وليس عن عالم عربي غدت فيه المجازر التي ترتكب على خلفيات طائفية وعرقية صنواً لنمط سيرورة الحياة اليومية لمعظم مجتمعاته . فلا يكاد يمر أسبوع واحد من دون أن تورد فيه وسائل الإعلام نبأ عن عملية إرهابية تنفذها عناصر متطرفة، يذهب ضحيتها الأبرياء في العراق أو اليمن أو الجزائر أو تونس أو سوريا أو شبه جزيرة سيناء في مصر أو ليبيا وغيرها!
نعم صحيح لم تُسجل لدينا حوادث شبيهة بما يتكرر حدوثه من مجازر بحق الطفولة البريئة في المدارس الأمريكية، ولكن ذلك ليس ناتجاً عن نقص في ثقافة العنف لدينا، كلا للأسف الشديد، فلدينا بالمقابل ما هو أنكى وأعظم خطباً، فلقد ارتكب الإرهابيون مجازر بشعة بحق المصلين في المساجد والكنائس وفي أماكن تجمع الناس العاديين الأبرياء مثل محطات حافلات نقل الركاب والمطاعم والأسواق الشعبية . قبل أيام فقط وتحديداً يوم الاثنين 17 ديسمبر/ كانون الأول ،2012 وعلى سبيل المثال لا الحصر، قام المسلحون باستهداف المكوّن التركماني في قضاء خورماتو بسيارات مفخخة أدت الى مقتل خمسة أشخاص، بينهم ثلاثة أطفال وإصابة 26 آخرين بجروح متفاوتة وتدمير نحو 20 منزلاً ليصل عدد منازل التركمان العراقيين التي دمرت 150 منزلاً . وكانت هذه العناصر الإجرامية قد اختطفت اثنين من المعلمين التركمان من قرية الزركاطة وأحرقتهما حيين لإرهاب أهالي المنطقة التركمانيين . وفي الوقت نفسه استهدفت هذ العناصر بسيارة مفخخة السكان الفقراء من طائفة الشبك العراقية في قرية الموفقية في ناحية برطلة الواقعة على بعد 30 كيلومتراً إلى الشرق من الموصل، راح ضحيتها سبعة قتلى و15 جريحاً من أبناء الشبك وإلى هدم منازل سكنية على عوائل كانت نائمة بينهم نساء وأطفال . والهدف هو تهجير هؤلاء الناس من مناطقهم على غرار تهجير نحو2 .1 مليون مسيحي من العراق بعد تكرار استهدافهم واستهداف كنائسهم من قبل المجموعات الإرهابية المسلحة .
ثم إن الحديث يدور هنا حول متغيرين مختلفين وغير متناسبين من حيث المقارنة، وهما هنا العنف الفردي والعنف السياسي المنظم، كل له ظروفه وملابساته ودواعيه، فشتان ما بين العنف الفردي والعنف السياسي المنظم . ما حدث – ويحدث بين فترة وأخرى تقصر أو تطول - في أمريكا أو غيرها من البلدان الرأسمالية المتقدمة، هو عبارة عن حالات يائسة للخلاص الفردي من قبل أشخاص يحاولون تفريغ حنقهم وسخطهم على ظلامات المجتمع المنقسم طبقياً على نحو حاد للغاية والمفضي، بالضرورة، إلى ظهور إفرازات وصديد يدفع ثمنهما المجتمع بكليته على شكل تمظهرات متنوعة منها أعمال العنف الفردي اليائسة كالمجزرة الطلابية المنوه عنها آنفاً . في حين أن ما يحصل لدينا عبارة عن جرائم منظمة Organized crime لتنظيمات لها أيديولوجيا تدميرية وتكفيرية، ولها شيوخ إفتائها، ولها أجندات واضحة، بعضها معلن وبعضها الآخر خفي، تعمل ليل نهار على إنفاذها عبر خطط تنفيذ على أرض الواقع .
ومع ذلك فإن حسبنا فيما تقدم أن نكران الحقيقة لا يعني بالضرورة النجاح في سترها وإخفائها ما دامت باقية تعلن كل ثانية عن وجودها . ثم إن رسالة الإعلامي ليست في التستر على عيوبنا والتكرار الممل بأن كل شيء لدينا عال العال، وإنما الكشف عن مواطنها وتسليط الأضواء عليها باعتبارها معوقات حقيقية لتنميتنا ونهضتنا المتكاملة، من أجل تقديم ما يمكن أن يسهم في التحرك الإداري الكلي (تحرك أجهزة ومؤسسات الدولة)، والمجتمعي، لمعالجتها أو على الأقل اتخاذ الخطوات الجادة لمقابلة تحدياتها .