إن الأزمة السياسية في الكويت، إلى جانب بعدها السياسي المتمثّل في نهج المشيخة ومحاولتها الانفراد بالسلطة والانقلاب التدريجي على الدستور، فإنّها تعكس صراعاً اجتماعياً آخذ في الوضوح والتبلور.
حيث يستحوذ الحلف الطبقي المسيطر على الثروات الهائلة من عوائد النفط عبر الخصخصة والعقود الضخمة والتلزيمات والمناقصات الحكومية وإنشاء المحافظ المليارية لدعم المضاربين على الأسهم وتجار العقار.
فيما تتسع الهوة الطبقية بين الطبقة المتنفذة وكبار الملاك وبين الطبقة العاملة والفئات المهمشة والمحدودة الدخل، وتتعمق أزمة المعيشة التي تتمثل في غلاء أسعار السلع وارتفاع إيجارات السكن والمحلات التجارية، حيث تزداد الأسر الفقيرة فقراً، وترتفع نسب البطالة في أوساط الشباب حديثي التخرج، دون إلزام القطاع الخاص بتولي مسؤوليته الاجتماعية في توظيف العمالة الوطنية.
وفي ظل هذا الصراع تتدهور المؤسسات بأنواعها وتهرم البنى التحتية للمدارس والمستشفيات والدوائر الحكومية والطرق والصرف الصحي وتتدهور جميع الخدمات الصحية والتعليمية، وخدمات الكهرباء التي بنيت في ستينيات القرن الماضي ولما تجدد أو يستحدث غيرها.
وفي المقابل يتم صرف مبالغ هائلة على التسلح والاتفاقات الأمنية، فقد ذكرت شركة الشال الاقتصادية تحليلاً نشرته جريدة القبس في عددها الصادر يوم 16 ديسمبر لتقرير مركز بون الدولي للتحول: “يقدر أن من ضمن الدول العشر الأوائل في حجم الإنفاق العسكري، مقاساً كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ـ حجم الاقتصاد ـ خمس دول عربية من ضمنها الكويت والبحرين والسعودية، وتحتل الكويت المركز السابع على مستوى العالم في حجم إنفاقها العسكري، يليها في المركزين التاسع والعاشر كل من البحرين والسعودية، بينما يسبقها في المنطقة العربية كل من سوريا في المركز الثالث والأردن في المركز الخامس، وهذا التصنيف يبدأ من عام 1990م وينتهي 2011م، ويذكر تقرير صادر عن عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، أن الكويت أنفقت على التسلح العسكري خلال 24 عاماً ما بلغ نحو 28,557 مليار دينار كويتي، كما خصص المجلس البلدي مؤخراً موقعاً بمساحة5000 م2لإنشاء مقراً لحلف شمال الأطلسي “الناتو” في منطقة مشرف، حسبما ورد في جريدة القبس في عددها الصادر يوم 18 ديسمبر.
وفي هذه الأجواء يستشري الفساد في جسد الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص، وتنتشر الرشوة والمحسوبية والفساد الإداري، حتى وصلت عملية الإفساد إلى أعضاء مجلس الأمة المنتخب عام 2009م فيما سمي بفضيحتي “الإيداعات والتحويلات المليونية”، حيث كشفت البنوك تضخماً فجائياً في أرصدتهم، وعملية الإفساد هذه عبر استخدام المال السياسي تهدف إلى كسب الولاءات السياسية وتغيير موازين القوى في البرلمان لصالح الحكومة، وذلك قبل الانفراد الحكومي بتغيير النظام الانتخابي الذي قاطعته المعارضة.
وكشفت منظمة الشفافية العالمية الدولية في مؤشر مدركات الفساد العالمي للعام 2012م أن ترتيب الكويت ضمن هذا المؤشر وعدد النقاط التي حصلت عليها هذا العام قد تراجعا عما كانا عليه في العام الماضي، وهذا ما يعني المزيد من الفساد في الدولة، فقد تراجع ترتيب الكويت من المرتبة 54 في العام 2011م إلى المرتبة 66 في العام 2012م، وهي مؤهلة للتراجع أكثر فأكثر في السنوات القادمة، وذلك نتاج طبيعي لنهج التنفيع واستخدام المال السياسي لشراء الولاءات السياسية، وفي ظل غياب الرقابة الشعبية والمعارضة في المجلس الحالي، الذي هو ـ صنيعة الحكومة ـ بعد المقاطعة الواسعة للانتخابات، سنشهد استشراء أكبر للفساد والهدر في المال العام.
وفي ظل هذا النهج تتراجع الكويت أيضا ضمن اختبارات التعليم الدولية، حيث احتلت الكويت مراكز متأخرة جداً ضمن عدد من الاختبارات الدولية لقياس مستويات التحصيل الدراسي، حيث أظهرت نتائج الاختبار الدولي للرياضيات والعلوم ” تيمز” لعام 2011م أن طلبة الكويت احتلوا المركز 48 من بين 50 دولة، فيما أظهرت نتائج الاختبار الدولي لمهارات القراءة “بيرلز” تأخراً أيضاً حيث كان ترتيب طلبة الكويت 46 من 49 مشاركاً، وهذا يكشف عمق أزمة التعليم وتخلف المناهج والتحصيل الدراسي، وقس على ذلك كل مناحي الحياة في الكويت التي تراجعت وتتراجع سنوياً، ما يعني أن الكويت تدخل نفقاً مظلماً وتدهوراً عاماً في مؤسسات الدولة ومفاصلها رغم فائض عائدات النفط التي تبلغ مليارات الدنانير.
وعلى هذه الخلفية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يتنامى التذمر والغضب الشعبي منذ العام 2009م وما قبله على شكل تجمعات وندوات تندد بالفساد وسوء الإدارة والهدر الكبير للمال العام، الذي حمّل الناس مسؤوليته على رئيس مجلس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد الصباح، إضافة إلى نهج الملاحقات السياسية واعتقال أصحاب الرأي الذي طال عدداً من الناشطين منهم المحامي والكاتب محمد عبد القادر الجاسم، وخالد الفضالة الأمين العام السابق للتحالف الوطني (الليبرالي) وغيرهما، كما تمت أخطر عملية تأجيج طائفي وقبلي وفئوي ومناطقي مزقت النسيج الوطني ونشرت الكراهية بين مكونات المجتمع، من خلال شخصيات مثيرة للجدل وقنوات فضائية وصحف يملكها بعض المتنفذين الموالين للسلطة وبتشجيع منها أو تغاضياً عنها في أقل تقدير.
وقد اتسعت الاحتجاجات الشعبية وتنامت واتخذت اشكالاً متنوعة من التجمعات والندوات الحاشدة والمسيرات، ما أدى إلى استقالة الحكومات المتتالية وحل مجالس الأمة المتعاقبة عدة مرات منذ 2006، وكان الغضب في البداية موجهاً نحو نهج الحكومة ورئيسها السابق الشيخ ناصر المحمد الصباح، وقد حدث ذلك قبل ما بات يسمى بـ”الربيع العربي”، بل إنّ شعار “إرحل” ضمن حملة “إرحل نستحق الأفضل” ضد رئيس مجلس الوزراء السابق، سبق شعار “إرحل” الذي رددته الشعوب العربية المنتفضة، وهو ما نتج عنه إسقاط رئيس الوزراء وحل مجلس 2009م الذي أتهم بالفساد وقبض ملايين الدنانير… وعندما جرت انتخابات فبراير 2012م حصلت المعارضة على 34 مقعداً من أصل 50، بحيث شكّلت الغالبية التي حددت أولوياتها الرقابية والتشريعية في المطالب الشعبية بمتابعة ملف الفساد السياسي لرئيس الحكومة السابق والنواب الفاسدين من أعضاء مجلس 2009، وتحقيق الإصلاح السياسي الذي يبدأ بسن قانون لإشهار الأحزاب على أسس ديمقراطية وإصلاح النظام الانتخابي بحيث تصبح الكويت دائرة انتخابية واحدة ويتم الانتخاب بناء على القوائم النسبية بدلاً من الترشح الفردي، مع ضرورة حصول الحكومة على ثقة مجلس الأمة، إلا أن القوى الإسلامية من ضمن الغالبية البرلمانية انتهزت الفرصة لفرض أجندتها والمطالبة بتعديلات دستورية باتجاه الدولة الدينية.
إلا أنّ السلطة كانت قد زرعت لغماً يبطل انتخابات 2012 بخطأ إجرائي، وكان ذلك أفضل ذريعة لحل المجلس الذي شكّل صداعاً لها ليعود مجدداً مجلس 2009 الذي سبق حلّه، وبعد ذلك لجأت الحكومة إلى المحكمة الدستورية للطعن في قانون تحديد الدوائر بهدف تمكينها من تغييره، ولكن المحكمة لم تستجب للطعن الحكومي… فلجأت السلطة إلى خيار آخر، حيث بادرت إلى حلّ مجلس 2009 مرة أخرى وأصدرت عدداً من مراسيم الضرورة من بينها مرسوم بقانون لتقليص الأصوات التي يستطع الناخب الإدلاء بها من أربعة أصوات إلىصوت واحد، بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية والقضاء على الاستقطابات القبلية والطائفية، وهو التعديل الذي رفضته غالبية القوى السياسية والشبابية والنيابية استناداً إلى عدم توافر شرط الضرورة وفقاً للدستور في هذا المرسوم بقانون، فخرجت الجماهير في مسيرات حاشدة قابلتها السلطة بقمع شديد شمل استخدام الهراوات وقنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والطلقات المطاطية ما نجم عنه إصابات واعتقالات في صفوف الشباب، وتم تنظيم مسيرات إخرى ضخمة وغير مسبوقة حملت اسم “كرامة وطن” تجاوز عدد المشاركين فيها المائة ألف من المواطنين والمواطنات، حيث قمعت الحكومة اثنتين منها ورخصت لاثنتين، وكانت هذه المظاهرات سلمية وفي غاية التنظيم.
لقد تشكل في الكويت واقع جديد يتمثّل في مضي السلطة بتنفيذ انقلابها التدريجي على الدستور بالضد من رغبة الشعب من جهة، فيما انكسر حاجز الخوف وارتفعت روح التحدي عند الجماهير المحتجة من جهة أخرى، وانطلقت المسيرات العفوية الليلية في مختلف مناطق الكويت، بل لقد ابتدع الشباب أساليب أرهقت القوات الأمنية… كما تغيّر مضمون الحراك الشعبي، ففي البدء كان المطلب سحب مرسوم قانون الصوت الواحد وإجراء الانتخابات وفق القانون قبل تعديله على أن يتم أي تعديل له داخل البرلمان المنتخب، ولكن مضمون الحراك تطور ولم يعد مقتصراً على المرسوم والانتخابات بل تعداه إلى رفض الانفراد بالقرار والانقلاب على الدستور، والعودة بالكويت إلى المشيخة أو الإمارة التي تجاوزها التاريخ بعد وضع دستور 1962م.
وأدى تمادي السلطة في تعاملها البوليسي المتعسف إلى تنامي الغضب الشعبي، حيث تشهد الكويت اعتقالات متواصلة في صفوف الشباب، ويجري تلفيق الاتهامات المعلبة لهم مثل التعدي على مسند الإمارة والخروج في مسيرات غير مرخصة والاعتداء على رجال الأمن، حتى وصل عدد المعتقلين إلى رقم غير مسبوق من بينهم أطفال وأحداث.
وقد ذكرت جريدة القبس الكويتية في عددها الصادر يوم 16 ديسمبر، أنه في عام 2012م بلغ عدد المحالين إلى النيابة في قضايا التظاهرات 491 شخصاً ولكن مصادر أخرى قالت أن العدد قد يكون ضعف هذا الرقم هذا عدا عن القائمة الطويلة للمطلوبين الذين ينتظرون الاعتقال.
وفي سياق تكريس النهج البوليسي، قامت الحكومة بالتوقيع على الاتفاقية الأمنية الخليجية، بعد أن كانت تمتنع بسبب تعارضها مع مواد الدستور، كما وقعت الكويت على معاهدة أمنية مع بريطانيا بقيمة مليار ونصف المليار جنيه استرليني، وذلك للتعاون في مجالات الرقابة الأمنية وما يسمى “الوقاية الإلكترونية” والحماية الأمنية للانترنت، وحسب موقع “بي بي سي” باللغة العربية في 28 نوفمبر الماضي “أن أحد أفرع وزارة الخارجية البريطانية سيقوم بإدارة البرنامج الأمني المشترك”، كما تتسرب أنباء عن توقيع عدد من الاتفاقيات التي لم يعلن عنها بعد.
إن الكويت الآن تقف في مفترق طرق، فإما العودة إلى نهج المشيخة والحكم بطريقة عشائرية والانفراد بالحكم وقمع الحريات، أو أن يتحقق التغيير الديموقراطي المنشود بالانتقال إلى النظام البرلماني الكامل.