هو رجل لا يمكن إلا أن يكون بحرينياً.. يمكنك أن تتصوره أي شيء، وعلى أية
هيئة أو أية صورة، ولكن لا يمكنك أن تتخيله غير ذل . هو من صميم هذه الأرض،
معجون من ترابها، مندمجاً معها، تنضح منه وهو ينضح منها، مشبعاً بها روحاً
ورائحةً.. محباً لها وهي محبةٌ له، يعطيها من غير حدود وهي أعطته وصاغته
خَلقاً وخُلقا. سعيدٌ بها وهي سعيدةٌ به، وحتى إذا ما قست عليه مرة أو بعض
مرات فهو أيضاً سعيدٌ بقسوتها، يعتبر ذلك تقصيرا منه في حبه وعطائه فيزداد
حباً لها وعطاء.. عرف الكثير من الدول وعاش في بعضها ولكن ظلت البحرين
بالنسبة له على الدوام البداية والمنتهى.. جميل الوجه، باسم الثغر، تكاد
تطير فرحاً عندما يستقبلك بابتسامته الجميلة، خفيف الظل، صاحب فكاهة ساخرة
قد تصل في حدتها إلى المرارة.. ومع ذلك، فهو رجل صلبٌ وعنيد. خُلق لكي يكون
ثائراً ليس بالمفهوم السياسي فقط، بل وحتى بالمفهوم الاجتماعي الواسع..
يكره الضيق ويرنو إلى السعة، روحه حرةٌ لا تطيق القيود مهما كانت مسمياتها.
التمرد فيه غريزة متأصلة شاخصة على الدوام.. ومع ذلك فهو رجل اعتدال، ذو
عقل راجح، يكره التطرف أياً كان جهته، يسارياً هو أو يمينياً، إسلاميا كان
أو قومياً، بل إننا لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا بأنه قضى جل حياته في
مكافحة التطرف بأنواعه وأشكاله المختلفة.. وهو فوق كل ذلك من بيت كريم.. هو
رجل أُدين له بالكثير.. انه الأخ والصديق العزيز المحامي المرحوم السيد
محمد بن السيد يوسف السيد الرفاعي ( أبو سلام) الذي رحل عنا منذ أيام قليلة
تاركاً وراءه تاريخاً حافلاً من الوطنية والعطاء، وسيرة مليئة بالنضال
والصبر والكفاح ضد كل أنواع القهر والتخلف والتطرف.
عندما كان قدري جميلاً، مع بداية سبعينات القرن الماضي، قيض الله لي التعرف
بالأخ محمد السيد (هذا هو الاسم المختصر الذي اشتهر به والذي كان ذا صيت
حينها في صفوف المعارضات العربية التي كانت سائدة في ذلك الوقت)، حينها كنت
في العشرين من عمري أدرس العلوم السياسية بجامعة الكويت.. وقد شكل هذا
الحدث بالنسبة لي مفارقة حياتية حاسمة وفاصلة بين مرحلة سادتها الحماسة
والسذاجة والاندفاع، وبين مرحلة تبوأ فيها الفكر مكان السيادة والقيادة..
هكذا كان فعل وتأثير محمد السيد يوسف الرفاعي في مريديه، انه رجلٌ قادر على
أن يدخلك مرحلة النضج عنوة ويعيد إليك روحك الخلاقة دون إرادة منك.. رجلٌ
يعرف كيف يوقظ فيك العقل ويبوأه مكانه الطبيعي كقائد وسيد، ويجردك من
حماستك الزائفة واندفاعاتك الخطرة، ويعيدك إلى أصلك الذي خلقك الله من أجله
باعتبارك كائنا مفكرا كرمه الله على سائر العالمين.
لقد جمعتني مع «أبو سلام» في تلك الفترة الزاهرة من العمر، ومع غيره من
رفاقه الآخرين من السياسيين والمنفيين العرب الذين ضاقت بهم بلادهم في ذلك
الزمان، ووجدوا في مساحة الحرية التي كانت توفرها الكويت في سبعينيات القرن
الماضي ملاذاً آمناً ومجالاً للتنفس وللرزق أيضاً، لقاءات كثيرة وحوارات
طويلة كانت جلها تتم في منزله بمنطقة حولي على ما أذكر، إلا القـليل منها
عندما يكون هـناك ضيف زائر، كسياسي بارز أو مفكر ذي شأن، فإنها تتم عادةً
في بيوت أحد الأخـوة الكويتيين التي تتسع لمثل تلك اللقاءات. على كل حال،
كان جل المشاركين في تلك اللقاءات بما فيهم الضيوف من ذوي التوجهات
اليسارية بمختلف أطيافها إلا القليل منهم. والحقيقة أن النقاشات والحوارات
التي كانت تجري في تلك الجلسات كانت مثيرة ومفيدة، خاصة بالنسبة لشاب غر
مثلي، حيث كانت تتسم بالعمق والرقي والفهم الواسع، ذلك أن أصحابها كانوا من
أهل الفكر والثقافة والسياسة والتجربة المغموس بعضها بالمرارة والألم.
حينها كنت شغوفا بأحاديثهم وقصصهم وتجاربهم ومعاناتهم وحتى مـعـاركهم
السـياســية والعسكريـة والتي عادة ما كانت تنتـهي بالهـزيمة والخسران !..
في تلك الحوارات، كان أبو سلام رحمه الله، كعادته، فارس الساحة الذي لا يشق
له غبار. كان عندما يملك زمام الكلام يأخذك بأسلوبه المميز ونهجه الممتع
وحديثه الناضج ليحلق بك في أجواء رحبة وواسعة من الشرح العاقل والتحليل
السياسي المتزن على الرغم من ضيق المساحات وقلة الأدوات السياسية والقيود
التي تفرضها عليه نظريته الماركسية التي كان ملتزماً بها في ذلك الحين، إلا
انه مع ذلك كانت لديه من البراعة السياسية ما يجعله قادراً على توظيف،
وبشكل يثير الإعجاب، كل المعطيات مهما قل شأنها للاستفادة منها في التدليل
على صحة وسلامة وجهة نظره.. لقد كان رحمه الله بامتياز رجل سياسة.
لقد أثر فيَّّ أبو سلام تأثيراً كبيراً، وقدم إليَّ الكثير من المحبة
والعطاء والكثير من تجاربه وخبرته، وكنت حينها اقترب منه ومن فكره السياسي،
إلا أن لوثة العقل التي أوقظها هو في نفسي، والتي مازلت أعاني منها حتى
اليوم، أبقت على الدوام قدراً من الشك الذي أخذ يكبر شيئاً فشيئاً ليحولني
سريعاً وبعد حين من معجب ومناصر لأفكار اليسار إلى منافح لها.. بعد ابتعاد
الأفكار أخذت الحياة هي الأخرى تبعدني عن أخي وأستاذي محمد السيد.. وعلى
الرغم من هذا التباعد، إلا أن كانت له، على الدوام، في القلب مودةُ واحترام
شديدين.
قبل أن ننهي إبحارنا السريع في عالم «أبو سلام» الهادئ حيناً والهادر
أحياناً، لابد أن نتوقف وباحترام عند علامة هامة ومضيئة من علامات عمره
المثير، وأعني بذلك رفيقة دربه الأخت الكريمة أم سلام سلمها الله، تلك
المرأة الرائعة التي آمنت بزوجها إيمانا عميقاً، ونذرت نفسها من أجله،
ووفرت له كل ما يلزمه لممارسة عشقه وجنونه في الثورة والتمرد، وليس أقلها
خدمة تلك القوائم التي لا تنتهي من ضيوف أبي سلام.. لله درك يا أختي، لقد
كان أبو سلام يستحق أن تكون له زوجةٌ مثلك.
في آخر لقاء جمعني معه في إحدى المناسبات الرمضانية وكان ذلك في عام 2004
على ما أظن وفي أحد فنادق البحرين وبحضور بعض من الأصدقاء، أثار أبو سلام
كعادته العديد من القضايا، وكان تلميذه في هذه المرحلة من العمر قادراً على
أن يضيف الكثير. ولقد سعدت أيما سعادة عندما لاحظت القدر الهائل من
التغيير الذي طرأ على فكر وقناعات أبي سلام، فقد كانت شجاعة منه أن يصل إلى
هذا المدى وهو من هو في جماعته ورفاقه.
عندما صافحته مودعاً في تلك الأمسية الأخيرة قال لي «لقد استفدت منك كثيرًا
الليلة.. لقد غيرت بعض المفاهيم القديمة التي كانت عندي». حينها ربما شعرت
بزهو أن يخصك واحد مثله بهذا الإطراء .. أما الآن فإني ألتمس منه العذر
لأسأله، من استفاد من الآخر يا صديقي؟!!.. على الرغم من معرفتي اليقينية
بالإجابة، إلا أنني أشعر بخجل شديد من طرحي لهذا السؤال.. رحمك الله أبا
سلام، سيفتقدك كثيرون، لقد كنت إنساناً جميلاً، وقبل هذا وذاك كنت بحرينياً
أصيلاً.
هيئة أو أية صورة، ولكن لا يمكنك أن تتخيله غير ذل . هو من صميم هذه الأرض،
معجون من ترابها، مندمجاً معها، تنضح منه وهو ينضح منها، مشبعاً بها روحاً
ورائحةً.. محباً لها وهي محبةٌ له، يعطيها من غير حدود وهي أعطته وصاغته
خَلقاً وخُلقا. سعيدٌ بها وهي سعيدةٌ به، وحتى إذا ما قست عليه مرة أو بعض
مرات فهو أيضاً سعيدٌ بقسوتها، يعتبر ذلك تقصيرا منه في حبه وعطائه فيزداد
حباً لها وعطاء.. عرف الكثير من الدول وعاش في بعضها ولكن ظلت البحرين
بالنسبة له على الدوام البداية والمنتهى.. جميل الوجه، باسم الثغر، تكاد
تطير فرحاً عندما يستقبلك بابتسامته الجميلة، خفيف الظل، صاحب فكاهة ساخرة
قد تصل في حدتها إلى المرارة.. ومع ذلك، فهو رجل صلبٌ وعنيد. خُلق لكي يكون
ثائراً ليس بالمفهوم السياسي فقط، بل وحتى بالمفهوم الاجتماعي الواسع..
يكره الضيق ويرنو إلى السعة، روحه حرةٌ لا تطيق القيود مهما كانت مسمياتها.
التمرد فيه غريزة متأصلة شاخصة على الدوام.. ومع ذلك فهو رجل اعتدال، ذو
عقل راجح، يكره التطرف أياً كان جهته، يسارياً هو أو يمينياً، إسلاميا كان
أو قومياً، بل إننا لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا بأنه قضى جل حياته في
مكافحة التطرف بأنواعه وأشكاله المختلفة.. وهو فوق كل ذلك من بيت كريم.. هو
رجل أُدين له بالكثير.. انه الأخ والصديق العزيز المحامي المرحوم السيد
محمد بن السيد يوسف السيد الرفاعي ( أبو سلام) الذي رحل عنا منذ أيام قليلة
تاركاً وراءه تاريخاً حافلاً من الوطنية والعطاء، وسيرة مليئة بالنضال
والصبر والكفاح ضد كل أنواع القهر والتخلف والتطرف.
عندما كان قدري جميلاً، مع بداية سبعينات القرن الماضي، قيض الله لي التعرف
بالأخ محمد السيد (هذا هو الاسم المختصر الذي اشتهر به والذي كان ذا صيت
حينها في صفوف المعارضات العربية التي كانت سائدة في ذلك الوقت)، حينها كنت
في العشرين من عمري أدرس العلوم السياسية بجامعة الكويت.. وقد شكل هذا
الحدث بالنسبة لي مفارقة حياتية حاسمة وفاصلة بين مرحلة سادتها الحماسة
والسذاجة والاندفاع، وبين مرحلة تبوأ فيها الفكر مكان السيادة والقيادة..
هكذا كان فعل وتأثير محمد السيد يوسف الرفاعي في مريديه، انه رجلٌ قادر على
أن يدخلك مرحلة النضج عنوة ويعيد إليك روحك الخلاقة دون إرادة منك.. رجلٌ
يعرف كيف يوقظ فيك العقل ويبوأه مكانه الطبيعي كقائد وسيد، ويجردك من
حماستك الزائفة واندفاعاتك الخطرة، ويعيدك إلى أصلك الذي خلقك الله من أجله
باعتبارك كائنا مفكرا كرمه الله على سائر العالمين.
لقد جمعتني مع «أبو سلام» في تلك الفترة الزاهرة من العمر، ومع غيره من
رفاقه الآخرين من السياسيين والمنفيين العرب الذين ضاقت بهم بلادهم في ذلك
الزمان، ووجدوا في مساحة الحرية التي كانت توفرها الكويت في سبعينيات القرن
الماضي ملاذاً آمناً ومجالاً للتنفس وللرزق أيضاً، لقاءات كثيرة وحوارات
طويلة كانت جلها تتم في منزله بمنطقة حولي على ما أذكر، إلا القـليل منها
عندما يكون هـناك ضيف زائر، كسياسي بارز أو مفكر ذي شأن، فإنها تتم عادةً
في بيوت أحد الأخـوة الكويتيين التي تتسع لمثل تلك اللقاءات. على كل حال،
كان جل المشاركين في تلك اللقاءات بما فيهم الضيوف من ذوي التوجهات
اليسارية بمختلف أطيافها إلا القليل منهم. والحقيقة أن النقاشات والحوارات
التي كانت تجري في تلك الجلسات كانت مثيرة ومفيدة، خاصة بالنسبة لشاب غر
مثلي، حيث كانت تتسم بالعمق والرقي والفهم الواسع، ذلك أن أصحابها كانوا من
أهل الفكر والثقافة والسياسة والتجربة المغموس بعضها بالمرارة والألم.
حينها كنت شغوفا بأحاديثهم وقصصهم وتجاربهم ومعاناتهم وحتى مـعـاركهم
السـياســية والعسكريـة والتي عادة ما كانت تنتـهي بالهـزيمة والخسران !..
في تلك الحوارات، كان أبو سلام رحمه الله، كعادته، فارس الساحة الذي لا يشق
له غبار. كان عندما يملك زمام الكلام يأخذك بأسلوبه المميز ونهجه الممتع
وحديثه الناضج ليحلق بك في أجواء رحبة وواسعة من الشرح العاقل والتحليل
السياسي المتزن على الرغم من ضيق المساحات وقلة الأدوات السياسية والقيود
التي تفرضها عليه نظريته الماركسية التي كان ملتزماً بها في ذلك الحين، إلا
انه مع ذلك كانت لديه من البراعة السياسية ما يجعله قادراً على توظيف،
وبشكل يثير الإعجاب، كل المعطيات مهما قل شأنها للاستفادة منها في التدليل
على صحة وسلامة وجهة نظره.. لقد كان رحمه الله بامتياز رجل سياسة.
لقد أثر فيَّّ أبو سلام تأثيراً كبيراً، وقدم إليَّ الكثير من المحبة
والعطاء والكثير من تجاربه وخبرته، وكنت حينها اقترب منه ومن فكره السياسي،
إلا أن لوثة العقل التي أوقظها هو في نفسي، والتي مازلت أعاني منها حتى
اليوم، أبقت على الدوام قدراً من الشك الذي أخذ يكبر شيئاً فشيئاً ليحولني
سريعاً وبعد حين من معجب ومناصر لأفكار اليسار إلى منافح لها.. بعد ابتعاد
الأفكار أخذت الحياة هي الأخرى تبعدني عن أخي وأستاذي محمد السيد.. وعلى
الرغم من هذا التباعد، إلا أن كانت له، على الدوام، في القلب مودةُ واحترام
شديدين.
قبل أن ننهي إبحارنا السريع في عالم «أبو سلام» الهادئ حيناً والهادر
أحياناً، لابد أن نتوقف وباحترام عند علامة هامة ومضيئة من علامات عمره
المثير، وأعني بذلك رفيقة دربه الأخت الكريمة أم سلام سلمها الله، تلك
المرأة الرائعة التي آمنت بزوجها إيمانا عميقاً، ونذرت نفسها من أجله،
ووفرت له كل ما يلزمه لممارسة عشقه وجنونه في الثورة والتمرد، وليس أقلها
خدمة تلك القوائم التي لا تنتهي من ضيوف أبي سلام.. لله درك يا أختي، لقد
كان أبو سلام يستحق أن تكون له زوجةٌ مثلك.
في آخر لقاء جمعني معه في إحدى المناسبات الرمضانية وكان ذلك في عام 2004
على ما أظن وفي أحد فنادق البحرين وبحضور بعض من الأصدقاء، أثار أبو سلام
كعادته العديد من القضايا، وكان تلميذه في هذه المرحلة من العمر قادراً على
أن يضيف الكثير. ولقد سعدت أيما سعادة عندما لاحظت القدر الهائل من
التغيير الذي طرأ على فكر وقناعات أبي سلام، فقد كانت شجاعة منه أن يصل إلى
هذا المدى وهو من هو في جماعته ورفاقه.
عندما صافحته مودعاً في تلك الأمسية الأخيرة قال لي «لقد استفدت منك كثيرًا
الليلة.. لقد غيرت بعض المفاهيم القديمة التي كانت عندي». حينها ربما شعرت
بزهو أن يخصك واحد مثله بهذا الإطراء .. أما الآن فإني ألتمس منه العذر
لأسأله، من استفاد من الآخر يا صديقي؟!!.. على الرغم من معرفتي اليقينية
بالإجابة، إلا أنني أشعر بخجل شديد من طرحي لهذا السؤال.. رحمك الله أبا
سلام، سيفتقدك كثيرون، لقد كنت إنساناً جميلاً، وقبل هذا وذاك كنت بحرينياً
أصيلاً.