لسنا بحاجة الى دليل أو إثبات حتى نيتقن بأن هناك من يمعن في التعامل مع بعض الملفات المهمة التي شكلت قضايا رأي عام، بصورة لا تفتقر الى الجدية فحسب، بل يغلب عليها طابع المجاملات والتمويه تارة، والطابع الكاريكاتوري او الهزلي تارة اخرى، ولا يسع المرء وقد نفدت قدرته على الاستغراب إلا ان يشعر حيال هذا التعاطي بالاحباط من جهة وبأن ثمة ازدراء لذكائه من جهة اخرى.
عينة من هذه الملفات، ملف تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية، ملف اداء المجالس البلدية، ملف التجاوزات في كلية البولتكنيك، ملف المخالفات والخلافات والاختلافات في البلديات، ملف الفساد في ألبا واخيرا وليس آخراً ملف التجاوزات في مستشفى الملك حمد. تلك عينة ليس إلا.. ودعونا هذه المرة تحديدا نتوقف امام الملف الاخير فهو بيت القصيد، ففيه كما في غيره ما يغري بالعودة مرارا.
اول ما ينبغي ملاحظته والتذكير به بالنسبة لهذا الملف هو تلك الضجة والاصداء اللافتة للنظر والضمير التي أثيرت قبل شهور على خلفية التجاوزات والمخالفات الفاقعة التي رافقت سير مشروع المستشفى والتي كانت قد اخذت مساحة واسعة من اهتمامات ومتابعات الصحف والمنتديات والمجالس والمؤسسات الاهلية، وكان من جرائها ان انتشى الرأي العام بوعود أغدقت عليه من مسؤولين ونواب وعدوا بالحزم والحزم وبنهج قوامه المساءلة والمحاسبة وتحريك وابل من الملاحقات بمادة الفساد لأطراف عدة. ربما في سياق هذه الضجة من المفيد التذكير بشيء مما قيل ونشر من النوع الذي يستشف منه بخلاصة غير قابلة لأي تأويل، يكفي هنا ان نتوقف عند تصريح مهم لرئيس لجنة التحقيق البرلمانية التي نظرت في تلك التجاوزات، والذي سنظل نذّكر به مرارا، فاللجنة التي سبرت غور هذا الملف وحققت في ملابساته، خلصت الى ان المكتشف من التجاوزات فاق التوقعات..! وهذا ما أكده رئيس اللجنة النائب حسن الدوسري في تصريح مشهود له، فيما صرح نائب آخر بأن الباب في هذا الملف مشرّع لاحتمالات ومفاجآت عديدة قد تصب في اكثر من اتجاه، ونائب ثالث لوح بعريضة شعبية لمحاكمة المتورطين بالتجاوزات، ومضى نواب كثر على النغمة ذاتها. ولكن وفي ظل المطالبات بان يأخذ القانون مجراه بمنتهى الحزم والحسم والردع وبعد عدة شهور على الضجة، تظهر لنا وزارة الاشغال مؤخرا لتفجر مفاجأة هي بحق من العيار الثقيل، حيث نشرت رداً يفهم منه بان كل ما أثير من ضجة ضخمة، وكل الخلاصات التي توصلت اليها لجنة التحقيق، وكل الاتهامات والاستنتاجات و«النقاط الساخنة» التي أثيرت، كلها لم يكن لها اساس، وكل التحليلات والتفسيرات في شأن هذا الملف والتي لا تحصى، علينا ان نتعامل معها من الآن من زاوية كأن شيئا لم يكن..!!
هل هذا معقول؟! هل يمكن ان يكون كل ذلك في ذمة الماضي؟!، هل يمكن ان يطوى الملف هكذا فجأة لان وزارة الاشغال ردت اخيرا وقالت «بان جميع ما اتخذ من اجراءات في شأن التعاقد مع الاستشاريين والمقاولين تم وفقا للقوانين واللوائح..! وبأن السبب في كلفة المشروع يعود الى الاضافات الانشائية وارتفاع اسعار مواد البناء»..! وهل من المنطقي والمعقول ان تصمت الوزارة في حينه ثم تأتي اليوم بعد شهور كاملة بامتدادها وطولها وعرضها من تلك الضجة لتعلن «بانها سوف تقوم باتخاذ الاجراءات القانونية ضد المتسببين في التأخير الذي حصل في المشروع طبقا لبنود العقد..»، الا يعني هذا ان الوزارة بعد مدة طويلة من إثارة هذا الملف والضجة التي رافقته لم تتخذ الاجراءات القانونية حتى الآن..!! وكل ما استطاعت القيام به هو «إحالة موظف كان مسؤولا على الاشراف على جزء من المشروع الى النيابة العامة بعد وقفه عن العمل» ثم اليس من المنطقى ان يكون الرد من جهة رقابية وقانونية محايدة وليس الجهة التي ينطبق عليها القول «انت الخصم وانت الحكم» ..!!
ذلك خلاصة رد الوزارة، وهو رد يمكن للمرء حياله ان يطلق لمخيلته العنان من ارتياب لا سيما وهو يلحظ اسرافا في التصريحات الداعية الى احترام القانون ولقيم المساءلة والمحاسبة التي بات المواطن يتعطش اليها رغم ان هناك من يصر على ان تسلك هذه القيم الطريق الى المجهول..!!
هل طوي هذا الملف..؟ّ! ربما يكون كذلك من منظور الوزارة، ولكنه لم يطوَ بالنسبة للرأي العام، فمازالت هناك اسئلة تبحث عن اجابات، ونقاط تحتاج الى ايضاحات، وهذا ما تقتضيه الف باء المسؤولية. اما بالنسبة للنواب الذين «فاجأونا» مرتين، مرة وهم يستهلون دور انعقاد دورتهم الجديدة، حينما اطلقوا تلك التصريحات التي توحي بانهم عاقدون العزم على الجدية المفترضة في التعامل مع هذا الملف وبقية الملفات التي تفعّل دورهم في الرقابة والمساءلة، ومرة اخرى حين ناقشوا رد وزارة الاشغال على تقرير لجنة التحقيق البرلمانية، (6 نوفمبر 2012)، فلا ينبغي ان يغرب عن بالنا رفضهم إحالة « كبش فداء» لمسؤولين كبار الى النيابة، وتأكيدهم بان ثمة وزارات اخرى معنية بهذا الملف المثقل بالتجاوزات وهي المالية والصحة بجانب الاشغال، حيث كل وزارة معنية ببعض مسارات المشروع. وعلى اي حال، يستحسن تذكير النواب بانه بدون اضفاء المصداقية على دورهم في الرقابة والمساءلة الحقة التي لا تدع مجالا للالتباس والخروج من دائرة الاساليب الفاشلة المتبعة، سيغدو هذا الدور شكلا من اشكال التهريج..! او نوعا من انواع العبث.
واخيرا لا مناص من ان نتوقف برهة لنتساءل اذا كانت الاجواء السائدة من سياسية ونفسية واجتماعية واقتصادية من شأنها ان تبقي هذا العبث، وهذا الجرح النازف الى ما لانهاية؟! سؤال لا نملك الاجابة عليه.
حرر في 22 نوفمبر 2012