عند التوقف أمام حالة التصعيد الأمني والسياسي التي تتصدر المشهد
السياسي الراهن، ستلحظ حالة عامة من الترقب والحذر والخوف من انزلاق البلد
نحو المجهول، في ظل انسداد أفق الحلول السياسية، واتساع رقعة الخلافات وحدة
الاستقطاب السياسي والطائفي، وغياب أي مؤشر حقيقي على جدية الدولة في
اتخاذ خطوات سياسية يمكن أن تساعد على اختراق الجدار المسدود للأزمة
الراهنة.
وسوف لن يصعب على أي مراقب أو متابع معرفة أسباب هذه الحالة
المشوشة والمضطربة سياسيّاً واجتماعيّاً وأمنيّاً، والتي يمكن إجمالها في
ثلاثة أسباب رئيسية، أولها تعود إلى مفهوم أو على الأصح فهم الدولة لمسألة
الحريات والديمقراطية وسلطة القانون، التي يكثر الحديث عنها نظريّاً، مع
تغليب الخيار الأمني على أرض الواقع. لذلك يبقى التأزيم سيد الموقف حيث
تتوالى قرارات المنع وتتصاعد الإجراءات التي تحدُّ من حرية وحركة الناس،
وتتعارض مع القانون وتنال من «جوهر الحق والحرية» التي يؤكدها الدستور،
وليس منع المسيرات والتجمعات السلمية، وإسقاط الجنسية عن بعض المواطنين
واستمرار ملاحقة النشطاء السياسيين والحقوقيين، ومؤخراً استدعاء عدد من
خطباء الحسينيات ورواديد المواكب الحسينية، وما تعاني منه بعض القرى من
تطويق ومداهمات لمنازلها واعتقال بعض شبابها.
كل هذه الإجراءات
وغيرها تؤكد الطبيعة الأمنية التي تطبع بها الواقع السياسي والاجتماعي،
والتي تزيد من حالة الاحتقان السياسي والطائفي.
أما ثاني الأسباب فهو
طريقة التعاطي الرسمي مع مجمل القضايا والملفات التي شكلت أبرز عناوين
الأزمة الراهنة، وأمامنا أمثلة عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، ملف
المعتقلين السياسيين والمفصولين، بالإضافة إلى الانتقائية التي تعاملت بها
الدولة مع توصيات لجنة تقصي الحقائق، وما صدر عن مؤتمر جنيف لحقوق الإنسان.
وقبل هذا وذاك طريقة معالجتها للملفات السياسية والدستورية والحقوقية التي
أدت في نهاية المطاف إلى تفجر الأزمة وتفاقمها، حتى وصلنا إلى الحالة
المزرية التي نحن فيها اليوم.
وثالث الأسباب يتعلق بطبيعة الخطاب
السياسي والإعلامي للدولة، وهو الخطاب الذي يتصف في عموميته بالغموض
والمراوغة، وحمل الشيء ونقيضه في الوقت ذاته. وينطبق هذا الوضع بشكل تام
على موقف الدولة من مسألة الحوار التي يكثر الحديث عنها سياسيّاً
وإعلاميّاً، دون أن نلمس على أرض الواقع ما يؤكّد جدية هذا التوجه.
وما
يضاعف من حالة القلق التي تطبّع الوضع السياسي الراهن، هو الدور الذي
يلعبه «إعلام الفتنة»، والازدواجية المقيتة التي يتصف بها في تعامله مع
الأزمة وتداعياتها السياسية والاجتماعية. فهو إلى جانب امتهانه أسلوب
التحريض ونشر الكراهية؛ فإنه يستبطن انتهازيةً سمجةً ومثيرةً للغثيان، بسبب
ما تحمله من مخاطر جدية وحقيقية على وحدة المجتمع البحريني، الذي بات
منقسماً على نفسه بفعل الدور السيء الذي يمارسه هذا الإعلام. ولعل أسوأ
نموذج أو مثال يساق في هذا الصدد، تلك التخرصات والأراجيف التي تطفح بها
بعض الكتابات، والتي تقارب حد الهوس والجنون في مقاربتها وقراءتها للأحداث
والتطورات في البلاد.
ولنا أن نتصور كيف يمكن للشطط أن يذهب بعيداً
عندما يتم استحضار «المعارك التأريخية» و»الفتوحات» في سياق ما حدث في قرية
العكر قبل أسابيع، والنظر إلى ما تعرّضت له هذه القرية الصغيرة من حصارٍ
باعتباره «فتحاً جديداً»، ما استوجب إطالة أمد حصارها حتى تستسلم ويحين
أوان «فتحها» لتخليصها من «الإرهاب والإرهابيين».
هذا الخطاب غير
المسئول يمثل في الحقيقة استمراراً للخطاب نفسه الغارق في الأوهام
والخيالات، الذي رأيناه منذ اليوم الأول للحراك الشعبي السلمي، وجرى ربطه
بالخارج، ووصف المشاركين فيه بالعملاء والمأجورين، ووضع الغالبية الشعبية
المطالبة بالإصلاح والتغيير في خانة الخيانة والعمالة.
ومقابل هذه
الصورة السوداوية؛ يجري الحديث من حين إلى آخر، عن «فرضية» متفائلة، أو
هكذا يُراد لها أن تكون، وفحوى هذه الفرضية تقول: إنه على رغم المواجهات
الساخنة، والتهديدات المتصاعدة؛ فإن هناك محاولات تجري خلف الستار وعلى
مستويات مختلفة، ومسارات متعددة، من أجل استكشاف بعض الأفكار والتصورات لدى
القوى السياسية المختلفة، التي يمكن من خلالها صياغة مشروع سياسي، أو رؤية
متوافق عليها، تستوعب كل وجهات النظر والرؤى، بما يمهد الطريق لحل سياسي
يخرج البلاد من المأزق السياسي والأمني الراهن.
إن مثل هذه الفرضية
ليست بدعة أو مستحيلة في الأعراف السياسية ودهاليزها، حتى وإن بدت صعبةً في
بعض الظروف، كما هو الحال في الظرف الذي يجتازه بلدنا، حيث تتمترس كل
الأطراف خلف مواقفها المعروفة والمعلنة.
لذلك، نحن لا نملك تأكيد أو
نفي صحة مثل هذا السيناريو/ الفرضية، ولكن الذي نستطيع تأكيده وبدرجةٍ
عاليةٍ من اليقين، أن الدولة هي الطرفُ المعني والمطالَبُ أكثر من غيره،
بتهيئة الأجواء والظروف لجعل مثل هذا الطريق سالكاً، مهما كثرت فيه المطبات
والتعرجات، وهذه نقطة جوهرية سنحاول التطرق إلى بعض تفاصيلها في المقالة
المقبلة بإذن الله.