كل الكوادر العلمية في الدنيا وفي الدول، وأعني هنا الدول بمفهومها
القائم على طرفي المعادلة، وضمن الحقوق والواجبات، وأيضاً ضمن التعامل مع
الشعوب باعتبارهم مواطنين لا رعايا، أو قطيعاً أو تابعين، الدول التي تحترم
نفسها، وبالتالي تحترم إنسانها، ولا تعاني من أمراض نفسية أوعصبية أو
وراثية في الشعور بالدونية أمام الآخرين، وليست مصابة ومهووسة بالتمييز
الطائفي واصطناع الاحتراب والدعوة له، تلك الكوادر هي في صدارة الرعاية
والاهتمام في الدول ضمن المفهوم والواقع الذي ذهبنا إليه؛ لأنهم ليسوا
«صنايْعيه» بالبرَكة، وليسوا باعة فجْل على عربات جوّالة، مع الاحترام
الكامل والتقدير لكل تلك المهن وأصحابها، ولا ينال من أصحابها شيئاً إن
وجدوا أنفسهم يمتهنون تلك المهن. لكن يُراد لكوادر ومواهب وطاقات هذه
الأوطان أن تتحوّل إلى باعة جوّالين وماسحي أحذية وأبواق تصدح وتسبّح آناء
الليل وأطراف النهار باسم الخلل والتجاوزات والفساد أيضاً؛ أو على أقل
تقدير أن تصمت على كل ذلك وكأنها لم تر ولم تسمع، ومختوم على أفواهها.
لن
تجد في تاريخ العالم كله، ولن تجد في تاريخ الدنيا كلها، تعمّدَ واصطناعَ
التهم واجتراح الإهانات واختراعها، والتفنّن فيها كما يحدث في أوطاننا.
ما
يحدث في هذه الأوطان بعيد تمام البعد عن أي تخيّل أو تصوّر أو حتى توهّم.
ذروة العقول تكون تحت رحمة ورهن صلف وتعامل أمّيين وجَهَلة ولا يُحسنون
التفريق بين الألِف وعمود الكهرباء. مثل تلك الطاقات من المفترض أن تأخذ
مكانها اللائق بها من حيث الاحترام والتقدير والمكانة العالية والمرموقة
أنّى كانوا وتواجدوا. هم إضافة نوعية للمكان والزمان اللذين يتواجدون
ويتحركون فيهما. هم في مثل هذه الأوطان سبّة وعار، بطريقة الإذلال الممنْهج
في التعامل معهم؛ فقط لأن تكوينهم النفسي وعقيدتهم لا تلتقي والذين
يمارسون كل ذلك الصَلف، وكل تلك العُقد عليهم.
أمّة تهين كبارها
وعباقرتها تؤكد أنها في قائمة الذين هم عبء على هذا العالم. فقط مجرد
حضورهم يسبّب عبئاً مكْلفاً للعالم كل العالم. لا توجد أمّة تهين وتحتقر
وتسْحل وتحتجز وتصطنع الإدانات وتترصّد كبارها في العقول والقيمة والمعاني
كما يحدث في هذه الأوطان البائسة بامتياز. نعم بائسة بكل هذا التخلي العبثي
عن الممْسكين بعصَب قيمتها والدّالين على تميّزها والمرشدين لإمكانات أن
تكون «خير أمة أخرجت للناس» بتعميق قيمة أولئك الناس، لا إهانتهم واجتراح
طرق وأساليب إذلالهم ونفيهم عن الأرض؛ ولو كانوا بين الناس يسعون فيها
ويمشون في الأسواق. نفيهم من حيث تحديد الأمكنة التي يجب أن يتواجدوا فيها
حطّاً لإنسانيتهم، وإمعاناً في إذلالهم، وهي أمكنة لن تكون فنادق خمس نجوم؛
وإن أمعن الإعلام في وقاحته، والإصرار على تصديق الكذب الذي يمارسه.
أعلم
أن من طالهم ذلك الانتقام غير المبرّر يتعدّدون ويتنوّعون في تخصّصاتهم.
لا نتحدث عن أطباء ومهندسين ومعلمين ومفكّرين ورياضيين وصحافيين، وحتى
أميين في الحَرْف، لكنهم يقظون واستثنائيون في ضميرهم وشعورهم بهوْل ما
يحدث. غير أولئك أيضاً طالهم الاستهداف والتشويه والخسْف واستنفار كل
إمكانات الدول بكل أجهزتها.
ذلك أمر لا يمكن لأحد أن يختلف فيه أو
حوله. طال ذلك الشرائح كلها. من كان لصيق السياسة، وهي بمثابة الهواء الذي
يتنفسه؛ أو أولئك الذين يُصابون بحساسية خاصّة لمجرد التطرق إليها، وترى
جباههم ترشح عرقاً وكأنهم في جلسات استجواب سرّّي كالتي عهدناها مطلع
الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي؛ لكن المرحلة بكل هذه القيامات
الاصطناعية أعادت صوغ وعيهم ومداركهم ونظرهم إلى الأمور وتعاطيهم في الشأن
العام، ليكونوا جزءاً من حراك أمّتهم وجزءاً من موقف مواجهة كل صور ومشاهد
الاستلاب والهيمنة والقمع.
ثم إن الحقوق لا تعرف تمايزاً هنا بين
استهداف جرّاح مخ وأعصاب أو استهداف من لا مخ لديه أساساً. لا مخ، بمعنى
ليس ممن هو على الدرجة نفسها من التحصيل العلمي؛ لكنه على الدرجة نفسها
بالشعور بالغبْن والشعور بالتمييز والشعور بأن خللاً قائماً لا تستقيم معه
حياة الإنسان، وتتسمّم منه الحياة عموماً. الحق واحد وطريقه واحد، وإن
تعدّدت المنافذ المؤدية إليه. والإنسان لا يحتاج إلى امتلاك مجسّات إضافية
كي يميّز بين ما هو عادل في الحياة وما هو جائر، وبين ما هو مستقر وبين ما
هو مضطرب. الإنسان يُولد بالمجسّات تلك. الفارق فقط في تفعيلها أو تعطيلها،
ذلك هو الفرق.
ثم إن الإهانة، إهانة أي مخلوق لا تُنهي عبقريته
وقيمته، ولا تزيد الذي تعهّد تلك الإهانة وسهر عليها ورعاها وراكمها أية
ذرة إنجاز أو قيمة تطول ما يتصل به. هذا الخزي الذي يعيشه هذا الجزء من
العالم لم يأت عبثاً ولم يعشّش جُزافاً، ثمة من مهّد وتعهّد وموّل ولعب في
التشريعات والسياسات والحقوق كي «يظفر» بكل ذلك. يتحقق له وهْم أنه أنجز
شيئاً، على رغم تجاهله بأن مثل ذلك الوهْم له كُلَفُه وأثمانه الباهظة التي
تمسّ البسيط والمعقد في المكان والزمان المرتبط به.
باختصار،
وباختصار شديد: «الدول» والأمم التي تهين كبارها وعظماءها وعباقرتها وحتى
الذين لم ينالوا حظاً من تلك العبقرية والتميّز، أمّة لا تستحق الحياة، وهي
عبءٌ وعار على الحياة.