عالمنا العربي يصمُّ صَخَبه الآذان. منذ السابع عشر من ديسمبر/ كانون
الأول 2010 عندما أحرق البوعزيزي نفسه وحتى اليوم ونحن على هذا الحال.
مشهدٌ يسيطر عليه الانفعال والشَّد وتقطيب الجبين. السبب هو أن هَوَس
التغيير أصبحَ حاكماً. الجميع بات يتحدث عن الثورة. حتى الصغار، أصبحوا
يتغنون بهذا الشعار، بكل ما فيه من ممارسات ونشيد، يلهِم لديهم الشعور
بحتمية التغيير.
عندما تراجِع معاجم اللغة، لتبحث عن معنى مفردة
«ثورة» ستجد أن لسان العرب يردها إلى «ثارَ الشيءُ ثَوْراً وثُؤوراً
وثَوَراناً، وتَثَوَّرَ: هاج». وقد قال أبو كبير الهذلي: «يَأْوي إِلى
عُظُمِ الغَرِيف ونَبْلُه كَسَوامِ دَبْرِ الخَشْرَمِ المُتَثَوِّرِ».
ويقال: «انْتَظِرْ حتى تسكن هذه الثَّوْرَةُ، وهي الهَيْجُ». في المحصلة،
فإن معنى الثورة بدايةً مرتبطٌ بحالة نفسية، تدفع المرء للتمرُّد على ما لم
تستسغه نفسه وعقله.
لكن السؤال الصريح الذي يجب أن يُطرَح: هل
الثورات هي مجرَّد مشاعر يتم التنفيس عنها؟ ثم… هل الثورات هي مشروع
تغيير أم هي مشروع دَحْرٍ لما هو قائم أولاً وأخيراً وبأي ثمن ومِعوَل، وأن
ما يليه هو متروك للتدافع والصدفة؟ ثم ثالثًا: هل الثورات هي تعبيرٌ فكري
وثقافي يُظهره الفعل التغييري لإنسان الداخل، أم أنها مجرَّد سلوك عنفي
يتغذى حتى من الشيطان، وبالتالي لا يلتفت إلى وسائل النضال، ولا إلى شكل
الكيان الذي يتوجب إنشاؤه محل كيان منحل وزائل؟
هذه التساؤلات مهمَّة
جداً للنقاش. والحقيقة التي يجب إدراكها، أن الثورة هي بمثابة القِدْر،
الذي توضع فيه أجزاء الطعام بإتقان، كي نحصل بعدها على أكلٍ مستساغ المذاق.
حيث يجب أن تتوالى الجزئيات في ذلك القِدْر بحساب دقيق، كي تؤدي كل جزئية
منها دوراً محدداً. الثورات هي بمثابة الوعاء، الذي يجب أن يتضمن الرؤية
السياسية والفكرية لإنتاج مشروع سليم وغير موتور.
هذه الرؤية لا يمكن
أن ينتجها الدهماء، أو العصابيون وأمراء الحروب، الذين لا يحسنون سوى
التناطح وإسالة الدماء، وتشطير المجتمع، والظهور على هيئة مفارز دينية
متطرفة، تخيف الضعيف، وتتوعَّد المتردد، فتحرف البوصلة. هذا الأمر ليس
محورياً فقط لإنتاج التغيير الصحيح، بل هو أساسه، لأن سيطرته تعني أنه
الصّنو الآخر للديكتاتورية الحاكمة، وبالتالي لا مجال للمهادنة معه أو
محاباته، فقط لأن صوته هو الأعلى، أو أنه صاحب الإمكانيات الأكبر.
وإذا
كان هناك خوفٌ يمكن الحديث عنه هنا، فإنه الخوف من تحويل «الهياج» الثوري،
من هياجٍ ذي مخرز ديمقراطي، إلى آخر مدعوم بمشاعر عنفية ومُعَسكَرَة،
لتتحول المعركة، من معركة ديمقراطية ضد طغيان، إلى طغيان ضد طغيان، فيُخلَى
الحيِّز من أي دعامة ديمقراطية، لصالح جيوش تتقاتل وتتصارع، فتنشأ بينها
أنظمة مصالح لا صلة بينها وبين الحرية والتغيير. وهذا الأمر في الحقيقة، هو
أخطر ما يواجه مشاريع التغيير في العالَم. وقد حصل هذا في جزء مهم من
الربيع العربي مع شديد الأسف.
لقد تحدثت الفيلسوفة الأميركية
الألمانية حنَّة أرِنْدت عن ذلك بشكل تفصيلي. هي تشير إلى «أن الحروب لم
تكن مرتبطة بموضوع تحقيق الحرية إلاّ في حالات نادرة، وإنما ارتباطها موصول
بمبرر أن العلاقات السياسية في سياقها الاعتيادي لا تقع تحت رحمة العنف».
ولو تحققنا في عصرنا الحاضر، عن 131 حرباً خاضتها الولايات المتحدة
الأميركية حول العالَم ضد خصومها، وتحت دواعي الحرية، ففي أيٍّ منها يمكن
أن نجِدَ نموذجاً يسُرُّ، أو لنقل مجموعة نماذج يمكن الوثوق بها.
وربما
كان العراق نموذجاً جيّداً لهذه الإشكالية بعد الاحتلال في العام 2003،
واليوم، ليبيا وسورية على الطريق كما يبدو ما لم يتم تصحيح الأمر بسرعة.
فإذا ما قررنا أن تحوُّل الثورات إلى حروب من الخارج سيعني دخول أطراف ذات
مصالح محددة في تلك الحرب، فإن ذلك يعني أن هناك خيارات خارجية ستبدأ في
مزاحمة الخيارات الشعبية للداخل. وهذه المزاحمة تعني، أن هناك صراعاً آلياً
سينشب بين تلك الخيارات المتنافسة. وبما أن الداخل عادةً ما يكون هشاً
لاعتماده على اللحم الحي، ومباشرته للصراع، بينما الخارج يوظف الإمكانيات
الهائلة لإنجاح ذلك التغيير بأي ثمن خدمةً لمصالحه، فإن الغَلَبَة بين تلك
المصالح هي شبه محسومة، على الأقل مادياً.
أكثر من ذلك، فإن حسابات
الخارج عادةً ما تكون بعيدةً عن التقديرات الوطنية لأفراد الأمة الثائرة.
بمعنى أن الدعم العسكري الخارجي لا يقيم حساباً للأرواح المزهوقة، كونه لا
يقاتل على أرضه، وبالتالي لا يُزكَم أنفه برائحة الدم، ولا تشبع عيناه من
رؤية الأجساد المتفسخة على الأرض. هنا تتحوَّل الحرية إلى موضوع مبتذَل، أو
كما سمَّتها إرندت بالعقيدة الفاسدة، عبر تموضع الحرية في قبال الموت
الرخيص، أو المفاضلة ما بين الموت والعبودية. هذا الشعور، يمكن أن تجِده
عند اليابانيين، عندما رأوا مئة وأربعين ألف إنسان منهم وهم يحترقون بفعل
قنبلة ذرية! فهل فعل الأميركان ذلك كي تتحوَّل اليابان من الفاشية، أم
لإيقاف ضربات الكاميكاز ضد سفنهم؟
أهم ما يجب استيعابه في المعادلة،
هو أن يتلازم موضوع الديمقراطية مع التغيير الداخلي، وليس عبر جحافل
الخارج، وإلاَّ فإننا لن نحصل على تغيير ولا على حرية وإنما على دمار للحرث
والنسل.